يولد البشر ذكورًا وإناثًا، ومن خلال التعلم يجعل المجتمع منهما صبيةً وبناتًا، ثم يصبحان فيما بعد رجالًا ونساءً. وعندها يجري تلقينهما مبادىء السلوك والمواقف والأدوار والنشاطات المناسبة لنوعهما البيولوجي وكيفية التواصل مع بعضهما ومع الآخرين من خلال الصور النمطية عن كل جنس، وتساهم عملية التنشئة الاجتماعية بمؤسساتها المختلفة في تشكيل الهوية الجندرية لكل منهما بناءً على هوية النوع البيولوجي (الجنس).
تنتشر العديد من التصورات الخاطئة عن الرجل والمرأة والسمات المرتبطة بهما بناءً على الفروق البيولوجية بينهما، ومن بينها الفروق في التشريح الدماغي لكل منهما، ويعتمد الكثير من الناس على تلك التصورات (الخاطئة) في كثير من الأحيان لتفسير الفروق في سلوك كل منهما باختلاف المواقف الاجتماعية.
دماغ الإنسان مكون من نصفين لكل منهما وظائف مختلفة، فالنصف الأيسر مسؤول عن التفكير العقلاني وما يرتبط به من المنطق والصواب والاستنتاج والتحليل والكلام. أما النصف الأيمن من الدماغ فمرتبط بالتفكير العاطفي والإدراك الحسي والحدس والخيال والإبداع. وقد أثبتت بعض الدراسات النفسية الحديثة لمكونات الدماغ على أساس الجنس أن النصف الأيسر أكثر تطورًا لدى الرجل، ولكن النصفين متعادلان ومتشابهان لدى المرأة، لذلك تستطيع المرأة أن تستخدم النصفين معًا في حين يعجز الرجل نسبيًا عن ذلك. وهذه الحقيقة العلمية البيولوجية تنفي احتكار صفة العقلانية للرجل لأن المرأة لديها نصف الدماغ الكامل الذي يتعلق بالتفكير العقلاني والمنطقي والمجرد، بل أنها تتميز عن الرجل بأنها تستطيع استخدام النصفين معًا؛ أي العاطفة والعقل معًا.
أما الرجل فينحو (بالعموم وليس بشكل فردي) إلى عدم ميله إلى صفة العاطفة لأن الجانب الأيسر يعمل بشكل أفضل من الجانب الأيمن أولًا، ولأن التنشئة الاجتماعية للذكر تُركز على استخدامه للجانب الأيسر فقط المرتبط بالعقلانية وفق معايير الذكورة والرجولة المحددة في الثقافة السائدة. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة، فالظروف المحيطة المعززة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية لعبت الدور الأساسي في تغليب الجانب الأيمن لدى المرأة المرتبط بالعاطفة (بالعموم وليس بشكل فردي أيضًا)، لذلك تُظهر النساء الموهبة والخيال والنشاطات الفنية بشكل يفوق الرجال أحيانًا، ويمتلكن الحدس أيضًا. على الرغم أن العاطفة والعقل سمات إنسانية يجب تمثلها من قِبل الجنسين وليست حكرًا على جنس معين، كما أن ممارسة الأعمال والطباع نفسها يوميًا تؤدي إلى تطور الدماغ تدريجيًا وفق المهام الموكلة إليه، وهو الرهان الذي يعتمد عليه حال الوصول إلى ممارسات عقلية وظرفية غير مميزة بناءً على النوع الاجتماعي.
والأهم هنا ضرورة التنبه إلى أنه لا يوجد دماغ خاص (علامة مسجلة) بالرجال فقط بمعنى أن الرجال جميعهم لا يمتلكون المواصفات الدماغية نفسها، وكذلك الأمر عند النساء فلا يوجد دماغ خاص (علامة مسجلة) بجنس النساء بأكمله، لذا قد نجد رجلًا بدماغ امرأة فسيولوجيًا واجتماعيًا، والعكس صحيح. وتساعدنا تلك المعلومة بتفسير أسباب الخلافات بين الأزواج، وتفسير أسباب التعميم السلبي على المرأة أو حتى على الرجل في مواقف التفاعل أو في مواقع صنع القرار.
إن المرأة لا تختلف عن الرجل في امتلاكها الاستعداد والقابلية لإدراك الحقائق والمفاهيم، وفي امتلاك القدرة على العلم والتعلّم. فأثبت العلم أن دماغ المرأة يحتوي على خلايا الدماغ التي تُسمى عصبونات بنسبة تزيد حوالي ١٠٪ عن دماغ الرجال على الرغم أن دماغ الرجال أكبر حجمًا، ولكن لا يعني كبر حجم الدماغ أنه أكثر فاعلية؛ فدماغ الفيل يزيد حجمه أضعاف مضاعفة عن حجم دماغ الإنسان. صحيح أن دماغ المرأة أصغر حجمًا من دماغ الرجل وأن القدرة على التفكير مرتبطة جزئيًا بحجم الدماغ ولكن لا يعني ذلك أن الرجال أكثر ذكاءً من النساء كما يستند بعض الباحثين في هذا المجال، فقد أثبتت الدراسات النفسية أن كلًا من النساء والرجال متساوٍ في اجتياز اختبارات الذكاء المتقدمة.
وقد فسر العلماء عدم ارتباط كبر حجم الدماغ لدى الرجل عن المرأة وما يصاحبه اعتبار الرجل أذكى منها – كما هو مُشاع بشكل خاطىء ثقافيًا – أن نسبة (المادة الرمادية) التي تسمح للدماغ بالتفكير هي واحدة عند الجنسين، وحتى يكون هناك توازن بين حجم الدماغ وطريقة التفكير يوجد لدى المرأة ٥٥٪ تقريبًا من هذه المادة الرمادية، مقابل ٥٠٪ تقريبًا في دماغ الرجل، الأمر الذي يعطي لدماغ المرأة صفة التساوي في الوظيفة والقدرة على التفكير مع دماغ الرجل على الرغم من اختلاف الحجم بينهما. كما يحتوي الدماغ على (المادة البيضاء) المسؤولة عن انتقال المعلومات بين المناطق البعيدة في الدماغ، وكمية هذه المادة عند الرجل أكثر منها عند المرأة بشكل واضح وهذا يفسر الفروق بين الجنسين في القدرة النسبية الأعلى لدى الرجل على البُعد الفراغي المرتبط بالتفكير المجرد، مقابل أن المرأة تتفوق نسبيًا على الرجل في القدرة اللفظية والقدرة على الاستماع، فالمرأة تستخدم الجانبين الأيسر والأيمن معًا عند الاستماع لذلك تهتم بالتفاصيل جدًا، بينما يستخدم الرجل الجانب الأيسر فقط من دماغه عند الاستماع لذلك يُفضل الاختزال للتفاصيل ويركز على الأمر من زاوية شمولية.
وهذه لا تعتبر قاعدة عامة كما ذكرنا لأنه أحيانًا نجد لدى أحد الجنسين خليط دماغي لمواصفاتهما معًا، والذي يعتمد على الظروف البيئية المحيطة التي تعرض لها خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي بدورها قد تُعلي أو تُكبت الاستعدادات البيولوجية لدى كل منهما بناءً على الخبرات المكتسبة أثناء الممارسة.
إن تأثير البيولوجيا على اختلاف سلوك المرأة عن سلوك الرجل وبالتالي الاختلاف في اهتماماتهما واختلاف أداء كل منهما في مواقف مختلفة واختلاف ردود أفعالهما أو ميولهما واختلاف قدراتهما في التعبير والتواصل، لا يقل أهمية على الإطلاق عن أهمية تأثير العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية والبيئة المحيطة عليهما في مراحل النمو المختلفة، تلك العوامل تؤثر أيضًا على البيولوجيا من حيث تأثيرها على مستوى إفراز الهرمونات بمقدار تأثير الهرمونات على اختلاف السلوك الإنساني، فهناك تفاعل مستمر بين البيولوجيا والعوامل الاجتماعية لا نستطيع أن نقلّل من أهمية أي منهما.
بين دماغ المرأة ودماغ الرجل: فرق التشريح وبيولوجيا الاستعداد لا يلغي أبدًا دور البيئة وسلوك العباد……
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found