ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ، وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ….
إن ازدواجية المعايير من جهة، والانحطاط الفكري والأخلاقي للمجتمعات من جهة أُخرى، سواءً في المواقف القومية أو الوطنية أو الأخلاقية أو حتى الشخصية، هما صنوان لا يفترقان. فهي تعكس حالة من “الزيف الاجتماعي” يلبس فيها الإنسان أقنعة عدة، ليظهر بوجوه مختلفة تحقق مصالحه ويُحرمّها على الآخر. كما تعكس غياب صدق المعنى ومصداقية الطرح. وهي المثال الصارخ والأوضح على انتهاك أبسط مبادئ العدالة الاجتماعية لأنها تُكيل بمكيالين: مكيال ذاتي غير موضوعي، ومكيال موضوعي للآخر. والمكيال الذي تُرجح له كفة الميزان هو المكيال الذاتي، الذي غالبًا ما يكون حصريًا نفعيًا متحيزًا مشخصنًا وظالمًا للآخر. الأمر الذي يُشكل سقوطًا مخزٍ وفاجع (لنظرية العقل)، لابتعاده عن الامتثال لمعيار إنساني واضح يتم تطبيقه على الجميع بعدالة بغض النظر عن الجنس أو الدين أو الجنسية أو أية معايير أخرى، متناقضة مع القيم الإنسانية والعدالة الإلهية التي تسبق العدالة الاجتماعية.
الأخلاق ليست موروثات اجتماعية نرددها كالببغاء كلاميًا، وإنما يجب ترجمة هذه الأخلاق في السلوك، وقبول الاختلاف، والانطلاق من قاعدة المكيال الأوحد والوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية وهو (مكيال الأخلاق والقانون)، سواءً على المستوى العلائقي أو الحقوقي بين الأفراد.
إن مبدأ الحلول الوسط من الممكن أن ينجح كقاعدة للتواصل الإنساني في أغلب المواقف الاجتماعية، ولكن بعيدًا عن المبادئ والمعايير والقوانين التي يجب أن يرضخ لها الجميع دون استثناء. فالمبادئ والقيم العليا لا يمكن تجزئتها سواءً من حيث المفهوم أو من حيث التطبيق والممارسة. لذلك يجب أن تنأى بعيدًا عن مبدأ الحلول الوسط لنحقق في سيرورتنا صيرورة العدالة الاجتماعية.
ويمكن تفسير ظاهرة ازدواجية المعايير من منظور نفساجتماعي من خلال رصد الخلل الأساسي في (البنية المعرفية)، وهو نمط التفكير السائد القائم على (التمييز والحكم المسبق)، الأمر الذي يقود إلى ترجمة تلك الأفكار إلى ممارسات مختلّة غير صحية تضرّ بتوازن المجتمع بسبب ذلك (الاعتلال الفكري).
وتسود ازدواجية المعايير في مجتمعنا من خلال أمثلة كثيرة، سواءً على المستوى السياسي مرورًا بالنظام الاجتماعي الثقافي السائد لتصل إلى مستوى العلاقة بين الفرد والآخر، خصوصًا على مستوى العلاقة بين الرجل والمرأة.
فالكيل بمكيالين تمارسه الدول العظمى لتُبسط نفوذها، وتمارسه الأنظمة لتُشرعن وجودها وتضمن ديمومتها، وتمارسه المؤسسات بما يحقق مصالحها، وتمارسه الأسر التي تكيل بمكيال ثقافة العيب على الإناث ولا تُكيله على الذكور. بحيث تبتعد قواعد الأخلاق العامة عن التصاقها بالإنسان كإنسان لينحصر تطبيقها على جنس دون الآخر، وعلى دين دون آخر، وعلى عرق دون آخر، وعلى دولة دون أُخرى، والحاضر العربي يُريك الأخيرة بجلاء ووقاحة.
وللخروج من هذه الآفة النفسية الاجتماعية يكون من خلال عصف ذهني متواصل بين المثقفين والتربويين والأكاديميين والسياسيين (العرب)، لصياغة نموذج أخلاقي يحمل معنى الدستور الذي نعود إليه لاشتقاق السلوكيات المناسبة، وهذه ضرورة ملحة في هذا المجتمع الانتقالي في المرحلة العربية الحالية، خصوصًا في ظل غياب المقاييس الأخلاقية الثابتة.
فحتى (الميكافيلية) التي تُكال لها التهم باعتبارها تنطلق من قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”، فإنها لا تُستخدم إلاّ على المستوى الذي يخدم الطموحات الوطنية العامة، وليس طموح الفرد أو الجماعة أو الحزب، بل ما يحقق استقرار الوطن والمصالح العليا للشعب. فهذا هو المعيار الحقيقي على مستوى العقل الجمعي وعلى مستوى الضمير الجمعي، الذي تلاشى مقابل تنامي (الوعي الزائف) والمكيال الذاتي المفرط.
المشهد العربي الآن بأمسّ الحاجة لتطبيق مبدأ ثبات المعايير والابتعاد عن الازدواجية سواءً على مستوى الدولة أو الأسرة أو الفرد. فما شهدناه خلال السنوات القليلة الماضية يشي بجملة فكرية خطيرة مفادها:
“كونك حاكمٌ الآن لا يمنحك المناعة أن لا تكون سجين الغد”.
عظةٌ نتمنّى أن يعيها ذوو الألباب.
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found