سلطان الضمير فوق سلطان القوانين

سلطان الضمير فوق سلطان القوانين
3٬915 مشاهدة

ينص قانون الفيزياء على أن الضغط يولد الانفجار، أما قانون الاجتماع فينص على أن الضغط يولد النفاق الاجتماعي والرياء وتذبذب المواقف الشخصية والوطنية على حدّ سواء. فما نشهده الآن (خصوصًا الأحداث الأخيرة المؤلمة جدًا) وما شهدناه في موقف الانتخابات الاخيرة أيضًا أمثلة صارخة على القانون الاجتماعي..

إن القوانين لم تُوجد إلاّ لتكون تلك الأحبولة المثيلة لبيت العنكبوت للأسف، فينفذ منه الأقوياء ولا يقع في شباكه سوى الضعفاء، ففي هذه الحالة لا جدوى من سنّ القوانين. لو كانت القوانين ترى إحقاق العدل في الاحتكام إلى ساحتها طلبًا لأبسط حق فكان من الأجدى أن لا تُقرّ مبدأ الطعن، فالقوانين تقف على الحياد دائمًا ولا تضع نصب عينيها إلاّ (الحرف) عندما تقرّ مبادئها لا لتأخذ بيد المظلومين ولكن لتتيح الفرصة لأصحاب الصيت الذين يملكون فرصة الإفلات من شرك العنكبوت. (الصيت أو النفوذ) هما المؤهل المعتمد في ناموس القوانين لأنها في مقابل (القانون الأخلاقي) لاأخلاقية ومخالفة للناموس الإلهي. فالقوانين تستطيع أن تُجيز كل شيء كما تستطيع ألا تُجيز وألا تُبيح أي شيء أيضًا، فكل شيء مباح في عُرف القوانين؛ فلا وجود في الحقيقة لقوانين عادلة ومرنة.. ‎

القانون لا يمكن اعتباره (إسلاميًا) لمجرد أننا صغناه على أنه قانون (شرعي)، بل على العكس من ذلك يمكننا أن نضيف قوانين أُخرى تكتسب الشرعية متى كانت لا تُخالف أو تُناقض روح ومبادئ القوانين والحدود التي ورد ذكرها صراحة في القرآن الكريم. فرسالة الشرائع الأرضية تكمن في تعطيل القصاص أو تأجيله إلى حين تستيقظ الروح التشريعية (المغتربة) في كل قانون وهي الشريعة الأخلاقية، فهي (يقظة) عسيرة لأنها ملتبسة وخبيئة لعلاقتها الحميمة بأعجوبة اسمها (الضمير)..

فإذا استبسلت الشريعة الأرضية مستخدمة حرف القانون الذي نصِفُه بالغباء، إلى اليوم الذي تستطيع فيه تحكيم الضمير فقد أدّت رسالتها الدنيوية على أكمل وجه. فالأفضل من اللجوء إلى القضاء لكسب قضية هو تحكيم الضمير، حتى لو كان في هذا التحكيم خسارة للقضية، لأن التنازل عن حطام الدنيا حتى لو كان حقًا مشروعًا أهون من كسبٍ ندفع مقابله كنزًا أنفس بما لا يُقاس وهو: الوقت..

‎فلا أمل لمظلوم أو لصاحب حق في نيل حقٍ مغتصب ما لم تتنازل البشرية عن كبريائها الزائف لتُلقي بالقوانين الوضعية في صناديق القمامة ولتذهب لاعتماد القانون الأخلاقي، ويكون المعيار الحقيقي للسلوك السوي غير الظالم للأغيار هو مخافة الله. قد ينجو الشرير من عقاب القانون ولكنه لا ينجو من عقاب الضمير ولن ينجُ بالتأكيد من العقاب الإلهي وقانون الدوران البشري.. ‎

ولكن على المستجيرين بالقوانين أن لا ييأسوا منها لأنهم في الحقيقة لا يستجيرون بها عندما يحتكمون لساحتها بقدر ما يستجيرون بالمحامين أكثر من القوانين نفسها. وهنا (حظ) اختيار محامي بضمير عالٍ لا يُباع ولا يُشترى ويستطيع تسخير القوانين لصالح أصحاب الحقوق، فالقوانين هي مجرد أسد ميت. وحراسة القوانين لا تُعادل أبدًا تسخيرها لإدانة الأغيار الظلمة. إن المؤسسات تُسمم حياة الأفراد بضيق أُفق القوانين، وبالمقابل لا يمكن للشخص أن يفلت من جور هذه القوانين أحيانًا إلاّ بسبب ضيق هذا الأفق؛ فنقطة ضعف القانون الوضعي هو ضيق أفقه أو ثغراته التي تسمح للمظلوم للإفلات من القصاص بغطاء من محامٍ متمرس ومتنفّذ. وكما قال الناقد الفرنسي (شارل بودلير) “لو استطاعت القوانين أن تتكلم لضجت بالشكوى من المحامين”..

‎ما أشدّ براءتنا حين نظن أن القانون وعاء للعدل والحق، فالقانون في هذا العصر الرديء ضمن خدعة الديموقراطية المزعومة والدولة المدنية المأمولة (حلم البسطاء) ما هو إلاّ تنفيذ لرغبة صناع القرار في المطبخ السياسي (الأقوى)، فهو بدلة (رجالية) فقط يتم تفصيلها على قياسهم (والمرأة) هنا مستثناة تمامًا أو مهمشة من زيارة الخياط المعتمد. ونعيش حاليًا في زمن غدا العدو فيه صديقًا ومعلم للديمقراطية، والاستسلام أصبح ممانعة، والهزيمة والخيانة وطنية وانتصارًا..

وللخروج من إطار اليأس والتشاؤم؛؛ فمهما وصفنا القوانين بالجمود والغباء إلاّ أننا يجب أن نعترف لها بالأفضال لأن في غيابها يكمن غيابنا أيضًا؛ “خلٌّ زورٍ أعوّل عليه فيخذلني أصعب من عدوٍّ أعدّ له العدة فتكفيني اليقظة شره”. فسلطان الإنسان أعظم شأنًا من سلطان التشريع؛؛ حتى لو حكمت القوانين على الشخص أن يكون في عداد الأموات، فإذا أراد الإنسان الحياة لا بدّ أن يستجيب القدر للإرادة الحرّة والعزيمة والإصرار. فالضمير فارسٌ ولكن البلية أنه فارس أعزل، وقد يفلح (فارس الضمير) وهو أعزل ما يفشل في عمله سلطان القوانين وهو مدجج بألف سلاح..

القوانين يجب أن تكون مرنة وهذه نقطة قوتها الحقيقية، بالإضافة إلى ضرورة اقترابها من الواقع مما يجعلها غير ثابتة وقابلة للتعديل والتغيير حسب مستجدات ذلك الواقع، أما في حال ثبوتها وجمودها الحرفي فتغدو قوانين غير واقعية البتّة. وفي بلد لا يحكم فيه القانون بشكل عادل ويُسمح للقلة أن تكون فوق القانون سيمضي فيه الناس والفقراء منهم على وجه التحديد إلى التوقيف المجحف وإلى السجون بمحض الصدفة لافتقارهم لفيتامين (واو) المغذي لحريتهم، فلا يوجد مستقبل في بلد يتمدد فيه الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل. وهنا من حق الدولة على الرأسماليين والليبراليين الجدد أن تُعلِّم البخلاء منهم كيف يكون (الكرم والجود) بسلطان القانون إذا لم يصدر من محض إرادتهم لوحدهم ويقظة ضمائرهم. فهذا أحد الحلول الجذرية للقضاء على مشكلة الفقر والمدقع منه..

نريد دولة قانون لا دولة (أشخاص)، فكثرة القوانين يزيد عدد اللصوص والفاسدين، والقوانين التي تُلجم الأفواه وتحطم الأقلام تهدم نفسها بنفسها. فينبغي أن يكون للقانون سلطة على البشر لا أن يكون للبشر سلطة على القانون؛ فالعكس هنا مرعب ومدمر في آنٍ واحد.. فحيث ينتهي القانون يبدأ الطغيان وبالمقابل يكون الشعب قويًا عندما تكون للقوانين قوة، فمن خرق القانون اليوم لمنفعتك خرقه غدًا لخراب بيتك.. الرحمة والضمير الحيّ هما جوهر القانون، ولا يستخدم القانون بقسوة إلاّ للطغاة..

نأمل من مجلس النواب الجديد اختلافه عن المجالس السابقة في تحقيق التغيير المنشود بما يخدم الوطن والمواطن. ونُعلق الآمال أيضًا على العنصر النسائي في هذا المجلس (وإن كنّ قلة عددية) أن يساهمن في دعم قضايا المرأة الفعلية التي تعاني منها في المجتمع بالتعاون مع المنظمات النسوية، فلنبتعد عن النظريات والمشاريع التجميلية ونحقق عدالة حقيقية للمرأة على أرض الواقع، ونقف مع النساء اللواتي يتعرضن يوميًا للظلم الاجتماعي والقانوني مقابل الاستنكار الاجتماعي والقانوني (الخجول) أمام تلك الانتهاكات. النظرية شيء والواقع مختلف تمامًا.

وأختم هذا المقال بهذه الأبيات للشاعر الجزائري ابراهيم أبو اليقظان:-
‎لالا وجودَ بغيرِ شَرْعٍ يَقْتضيه… الدينُ والعاداتُ والآدابُ ‎لالا بقاءَ بغيرِ قانونٍ يفي… بحقوقِ قومٍ همْ لها أترابُ ‎فهو الذي يحمي الشعوبَ من الصوا… عقِ الصواعق حين يركمُ بالشرورِ سحابُ ‎وهو المعمرُ للبلادِ حقيقةً… لا أنه محقٌ لها وخَرَابُ ‎لالا حياةَ بغير دستورٍ يقي… الأوطانَ مهما مسهنَّ عذابُ.

دة. عصمت حوسو

رئيسة مركز الجندر للاستشارات الاجتماعية والتدريب

Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found

اترك تعليقاً

Don`t copy text!