تعني (الدونية) لغويًا سفلية المستوى، أي الأقل مرتبة والأقل منزلة. أما المعنى النفسي الاجتماعي لها: سيطرة المشاعر السلبية لدرجة كبيرة توصل الفرد للإحساس بأن جميع الناس أفضل منه في شيء ما أو في كل شيء، الأمر الذي يقود إلى (العدوانية) المُفرطة كنتيجة حتمية للإفراط في (التعويض) تجنبًا للألم الذي يُسبّبه الشعور في الدونية.
مُقابل (عقدة الدونية) تتولد لدى الفرد نفسه – المُصاب – (عُقدة التفوق)، من خلال تصاعد الرغبة في السيطرة، وفرض السُلطة، وقيادة الآخرين، أو حتى الحطّ من شأنهم، أو اتهامهم بمجموعة من التهم غير الصحيحة ووصفهم بالصفات السلبية، فتُؤدي تلك المشاعر والسلوكات السلبية إلى إمكانية شعور ذلك الفرد بالارتقاء والتفوق على الآخر الأفضل. وإذا تمكّن هذا الشعور من الفرد فإنه يصبح نقمة عليه وعلى من يشعر اتجاهه في الدونية، فيفقد السكينة والطمأنينة ويبذل جهدًا (ميكافيليًا) متواصلًا للتعويض عن شعوره بالدونية من خلال تبنّي مبدأ “الغاية تُبرّر الوسيلة”، فيُكرس أهدافه نحو اغتيال شخصية الآخر فقط، أو إعاقة نجاحه، أو إيذائه، لينعم ذلك الفرد بالراحة بعد الاستمتاع بإيقاع الأذى على الآخر الأفضل. وهذا هو (الانتحار النفسي) بعينه حيث تضيق زوايا الرؤى لذلك الفرد ويأخذ منحى أُحادي الرؤية تمامًا نحو التفوق على الآخر، وتنحرف بوصلته نحو القضاء على من هو أفضل منه، وإذا عجز عن ذلك قد يتجه نحو (قرار الانتحار) لإنهاء حياته المليئة بمشاعر الدونية القاتلة..
أما في حالة (الدونية المجتمعية)، فيغدو المواطن دائم الشعور بالنقص والعجز مقارنة بالشريحة المتنفذة والمتنعمة في الوطن، فلا يستطيع العيش إلاّ بنظام الكفاف للضروريات فقط وتصبح الكماليات حُلُم بعيد المنال، وقد يعجز أحيانًا عن توفير قوته وقوت أولاده فيتنامى الشعور بالإحباط بتراكمية مرهقة. ويصل لقناعة تامة أن كفاءته وجهده لن تسعفانه في وطنه للتطور بتراتبية عادلة على سلّم الرواتب أمام جنون الأسعار، وعلى سلّم المناصب أمام جنون الاحتكار، والتي يتم إعادة تدويرها للأقلية فقط..
ويقود ذلك الشعور المتعب إلى حالتين لا ثالث لهما؛ فإما الاكتئاب المُطبق ويصبح الضرر هنا (داخلي) ويعيش تحت شعار (العيشة من قلة الموت)، ويتطور الضرر الداخلي أحيانًا بشكل خطير جدًا حدّ قرار (الانتحار) وإنهاء معاناته الحياتية أملًا في حياة أُخرى أكثر راحة. أو قد تتطور مشاعر الإحباط بشكل مُرعب ويصبح الضرر في هذه الحالة (خارجي) حدّ الإيذاء للآخر الذي يراه أفضل منه شخصيًا وحياتيًا، فيُوجه الإيذاء له إما جسديًا أو لممتلكاته أو لسمعته بسلوك إجرامي وبدمٍ بارد..
الدونية لا ينحصر وجودها على مستوى الفرد فقط وإنما تنسحب على مستوى الدول أيضًا، ولعل شواهد الواقع الحالي خير دليل على ذلك. فهي تُجسد شعور الانهزام من الداخل، والشعور بالعجز عن فعل ما فعله الآخرون أو حتى التمتع بالامتيازات نفسها التي يتمتع بها الآخرين، بالإضافة إلى قلة الإنجازات أو حداثتها عبر التاريخ..
وتعود أسباب الدونية إلى التربية الهزيلة غير السوية والتي تندرج تحت المثل القائل “من أمِن العقاب تمادى في الخطأ”، والمقصود بالعقاب هنا المُتناسب مع الذنب المُقترَف وغير المُبالغ فيه. ومن الأسباب الأُخرى للدونية وجود بعض القيود الاجتماعية: كالرفض الاجتماعي، وعدم القدرة على تكوين شبكة علاقات اجتماعية ناجحة أو الاستمرار بها، فقدان المكانة الاجتماعية سواء الموروثة منها أو المكتسبة مع قلة الإنجازات، ضعف أدوات التكيّف مع المحيط وهُزالة القدرة على حلّ المشكلات. ويلعب الحرمان من المال (وأمان العيش) الدور الأكبر في وجودها، فنقصه وغياب عدالة التوزيع يفرز الحقد الطبقي الاجتماعي…
تشي عقدة الدونية بمُخرجات وخيمة على الفرد والمجتمع في ذات الوقت، فقد تظهر على شكل العزلة الاجتماعية، القلق والاضطراب النفسي، الحساسية المفرطة، الخمول وعدم الإنجاز، التكبّر، النفاق الاجتماعي، ضعف المهارات الاجتماعية اللازمة للتكيف والتواصل الاجتماعي وحلّ المشكلات، الانحراف والسلوك الإجرامي. وأهم الآثار السلبية الضارة جدًا (تمثُّل) الكذب وحُبّ الانتقام، لأن الشعور بالدونية يجرّ الإنسان إلى الحقد على الآخرين وتوجيه النقد لهم، لا بل والتبلّي عليهم أيضًا، واغتيال شخصياتهم ونشر الشائعات حولهم وكيد المكائد لهم، واغتنام الفرص للصيد في الماء العكر والتسلق على الظهور، اعتقادًا من ذلك الشخص الذي يشعر بالدونية أنه من خلال ذلك يخفي نقصه ويشعر بالتوازن النفسي والتساوي المجتمعي مع الآخر الأفضل. وتكمن خطورة عُقدة الدونية حاليًا باستشراء ظاهرة تأخذ منحيين مرعبين؛ فإما (التلويح بالانتحار) أو (قرار الانتحار) وإنهاء الحياة بشكل نهائي لعدم قدرة ذلك الشخص على الشعور بالتوازن النفسي والاجتماعي، أو الشعور بالاكتفاء والتفوق، أو حتى إمكانية النجاح وتحقيق الأهداف. وإما التوجه نحو السلوك الإجرامي العنيف وإيذاء المواطن والوطن…
أما كيفية التخلص من الدونية سواء على مستوى الفرد أم المجتمع فيكون من خلال التركيز على نقاط القوة والمصادر والموارد المتاحة وتمتينها وتطويرها بدلًا من استنزاف الوقت بندب الحظ السيء أو (بالحسد) وإيذاء الآخرين، بناء الثقة بالنفس والقدرات وتمكينها، العمل الدؤوب المتواصل بدلًا من محاربة النجاح، حلّ المشاكل بالاعتماد على القدرات الشخصية والاكتفاء الذاتي دون انتظار الإنقاذ من الآخرين، الاستفادة من خبرات الآخرين والقياس عليها، ومشاركة قصص النجاح والمشي على خُطاها بحيث تصبح الخبرة تراكمية. ولا يتم ذلك إلاّ بتظافر الجهود بشكل تكاملي من قِبل جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية بالتعاون مع المؤسسات الرسمية وصناع القرار، وغير ذلك سنواجه مجتمعًا مليئًا بالمرضى النفسيين والمنتحرين والمجرمين والمدمنين، وهذا ما لا نتمناه للوطن..
وأخيرًا نختم الحديث عن هذه الآفة النفسية الاجتماعية بالإشارة إلى أن أي إنسان يستطيع الاستفادة من أرباحه وإنجازاته فهذا أمرًا سهلًا، ولكن الإنسان الذكي (فقط) الذي يستطيع أن يستفيد من خسائره ويحول الهزيمة إلى انتصار، والنقص إلى الكمال وذلك بالتحلّي بالحكمة والبصيرة والتخلّي عن النقمة والحسرة…
ونؤكد ذلك بمقولة مشهورة للزعيمة الأمريكية (اليانور روزفيلت): “لا يوجد أحد على وجه الأرض في إمكانه أن يجعلك تشعر أقل منه بدون إذنك الشخصي”….
مقال رائع جدا..احسنت الوصف والنشر