ما يرهقنا في علاقاتنا مع الآخرين هو (التوقعات) التي قد تصل في بعض الأحيان حدّ الخُرافات، تمامًا كالذي يتوقع الثلوج في آب اللهّاب..
يعني التوقع إما احتمالية حدوث أمرًا ما، أو الرغبة الشديدة في حدوثه. وعندما لا يلتقي (الواقع) مع التوقع تصبح تلك التوقعات مجرد تصورات عقلية زائفة أشبه بالوعود الكاذبة، وبالطبع سيتبعها الكثير من خيبات الأمل والإحباط.
استمرار التوقع بين الأزواج يقود في حال عدم مطابقتها على أرض الواقع إلى مشاكل طولية مستمرة بينهما، وحتمًا ستقود إلى الطلاق؛ العاطفي منه أو الجسدي أو حتى القطعي كنتيجة حتمية. ولتلاشي تلك النتائج السلبية بين الأزواج من المفروض تعديل التوقعات بينهما وتحويلها إلى توقعات منطقية، ومن الضروري أيضًا الابتعاد كلّ البعد عن التوقعات الخيالية الكبيرة منها أو الصغيرة على حدّ سواء، لأنها ببساطة شديدة تُقزّم قيمة الشريك كما تختزل احترام الذات وبالتالي فإن نتائجها حتمًا ستقود إلى الفشل. جذوة العلاقة بين الزوجين وإن انطفأت لبرهة باستطاعتنا دومًا إشعالها من جديد بثقاب الواقع الجميل المليء بشعلات المحبة؛ فهي استثمار طويل الأمد..
الكمال لله وحده فقط والبشر خطّاؤون، ولا يوجد أحد خالٍ من العيوب، فتوقّع الكمال من الشريك هو (وقود) للإحباط وجرح لمشاعر الطرف الآخر. فبدلًا من ذلك يجب تقبّل الطرف الآخر كما هو بنقاط ضعفه وعيوبه قبل نقاط قوته وميزاته، هنا تكون العلاقة الزوجية قائمة على (القبول والتقبّل) وليس على التوقعات الزائفة والخيالية، وهنا فقط أيضًا نحمي أنفسنا من فراغة العين ونتجنب ملئها من بيوت الآخرين وأصحابها..
الحياة الزوجية ليست وردية دائمًا، وبالتأكيد هي تتعرض لمطبات مستمرة بحكم متطلبات الحياة اليومية والالتزامات الاجتماعية والعائلية، فالزواج مسيرة مُتشعّبة الطرق وتُحيط بها الصخور وتعصف بها الأمواج أحيانًا، لذلك يجب توقع العواصف بين الحين والآخر والتعاون على تحدّيها، والتصدي للعقبات بعقل جمعي مشترك يتكلم بلغة (نحن) والابتعاد عن الفردية أو التحدث بلغة (الأنا). وجود المشاكل والخلافات أمر متوقع وطبيعي، ما يهم هنا في حال وجودها هو طرق حلها بهدوء بما يُرضي الطرفين وفضّ النزاع بينهما بسلام لتجنّب استمرارها أو تكرارها.
من الأخطاء الشائعة في إطار (التوقع بين الأزواج) هو التوقع من الشريك أن يقوم بدور (المُنقذ)، والافتراض أن تلك العلاقة هي المصدر (الوحيد) للسعادة، وتجاهل أن السعادة الحقيقية تنبع من الداخل أولًا وتولد من رحم التصالح مع الذات ومع المحيط. فالعلاقة الزوجية يجب أن تكون مصدر (إضافي) لمصادر السعادة الكثيرة جدًا لا أن تكون مصدرها الوحيد فقط..
يعتقد بعض المتزوجين أن قضاء وقت طويل بعيدًا عن الآخر يخلق بينهما مسافات ويقضي على المشاعر تدريجيًا انطلاقًا من مقولة “البُعد جفا”، والعكس هو الصحيح في كثير من الأوقات؛ لأن العلاقة هنا ترتبط بالوقت النوعي أكثر من الكمّي، فقضاء بعض الوقت بعيدًا عن الشريك يجعلهما أكثر قربًا عندما يقضيان الوقت معًا، وهذا أفضل بكثير أن يكون كل منهما بجانب الآخر كلّ الوقت بمسافة تكاد تكون معدومة على الرغم أن مسافة القرب المعنوي بينهما لا الجسدي بعيدة كبعد السماء عن الأرض. فوجود مساحة خاصة لِكلّ مِنهما ترتبط بتحقيق الذات وممارسة الهوايات ورؤية الاصدقاء يجعل الحياة أكثر ثراءً وتزيد من الثقة بالنفس لِكلّ مِنهما، كما تتطور الثقة في العلاقة نفسها كذلك، وتغدو هذه العلاقة (مصدر) للارتقاء والتطور وليس للتراجع والجمود..
من أهم الأمور التي تُنهي التوقعات الخيالية بين الزوجين هو الإقرار بالفروق الجينية والدماغية والنفسية بين الرجال والنساء، ثم الاعتراف بالاختلاف في طريقة التفكير والشعور وردود الأفعال والاهتمامات الخاصة لِكلّ منهما، ويأتي هنا أهمية تقبّل عدم التشابه بينهما في وجهة النظر لمواضيع الحياة المختلفة بشكل عام وشؤون الحياة الزوجية بشكل خاص جدًا. وضع هذه الاختلافات البيولوجية والاجتماعية بين الجنسين بعين الاعتبار عند التوقع (الواقعي) من شريك الحياة ضرورة مُلحّة جدًا هنا؛ فليس بالضرورة توقع الاتفاق في الرأي والاهتمامات دائمًا، وإنما احترام رأي الآخر في حال لا يؤثر ذلك على العلاقة الزوجية واستقرارها، ثم الوصول إلى حلول وسط في حال تأثيره. بمعنى آخر ضرورة توقع الاتفاق على السماح بالاختلاف في الرأي.
ويجب الانتباه هنا والتنويه لأمر في غاية الأهمية يتكرر حدوثه بين أغلب الأزواج: إن معرفة الزوجين ببعضهما بحكم العِشرة لا يعني على الإطلاق الفهم التلقائي لاحتياجات الطرف الآخر ورغباته، فتوقع تلبية الاحتياجات دون الإفصاح عنها (بوضوح) من قِبل أحد الطرفين للآخر يضع شريك الحياة في تلك الحالة في اختبار بالتأكيد لن يتمكن من اجتيازه، مما يسبب هذا الأمر إحباطًا شديدًا للطرف الآخر. ونُضيف أيضًا أنه مهما وصلت درجة الحُبّ وطول العِشرة والتشابه بين الزوجين فلا بدّ لِكلّ طرف التعبير عن نفسه بشكل معلن دون التوقع من الآخر اكتشاف رغباته ومتطلباته منفردًا وكأنه أو كأنها في أحجية أو في امتحان !!
الشيء الوحيد المقبول توقعه في الزواج هو (التغيّر)، “تغيّر شكل المؤسسة” عبر الوقت. ونقصد هنا التغيّر الإيجابي نحو نضج العلاقة وتبلورها عبر الزمن؛ فالعلاقة الزوجية تبدأ بشخصين وتتشكل مؤسسة الأُسرة وتنتهي بشخصين كذلك. وخلال مسيرة الزواج يكبر الأطفال وتزيد مسؤولياتهم وهمومهم، ويتغير الوضع المالي والمهني سواءً للأفضل أم الأسوأ، ويتغير الشكل أيضًا بتقدم العمر، وتتبدل الصحة أو قد تتدهور لا سمح الله. ولا يمكن بأي حال من الأحوال منع (التغيّر) أو إيقافه، ولكن توقعه يجعل الزوجين أكثر قدرة على التكيف مع تلك التغيّرات والحالات الطارئة التي قد تواجههما. لا مناص هنا أمام الزوجين من إدراك نواميس التغيّر ليتجنب كل منهما إمطار الآخر بوابل المواعظ الرنّانة التي لا تُجدي نفعًا أو الشكوى التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع؛ واهمٌ جدًا من يدّعي الصمود دون تغيّر مع تغيّر الحياة وتزاحم المسؤوليات والضغوط فيها..
الزواج مشروع يأخذ استحقاق البقاء والديمومة من (التوقعات المنطقية) واحترام الاختلاف وقبوله، وعلى كل طرف تجنّب أن يكون كالعائم على بحيرة من السعادة ينعكس على صفحتها أديم السماء فقط؛ فنعم للتوقعات الواقعية ولا للخُرافات الخيالية بين الزوجين…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found