كان يا مكان في قديم الزمان، كان لدينا نماذج من الأبطال علّمونا معنى (الكرامة) وأورثونا تاريخ (البطولة) وعرّفونا جينات (الرجولة)، وشتّان بين زماننا وزمانهم. وداعًا لهم، وداعًا لهم من أبنائنا وأبنائهم، ولا أهلًا ولا سهلًا بأنتيكات العصر الراهن من (بعض) رجال ونساء هذا الوطن.
هناك من عاصر أولئك الأبطال وهنا من يتغنّى بهم بعد غيابهم وبعد شُحّ نماذج أبطال على شاكلتهم، أو بالأحرى انقراض أمثالهم كانقراض الديناصور، وهيهات لتكرارهم. لا غرابة إذن من حسرتنا على فقدهم ولا ضراوة كذلك؛ فهم الحاضر الغائب وتوقف تاريخنا المُشرّف عندهم هناك تحت الأرض؛ فالأحياء اليوم فوق الأرض أمواتُ.
السِمة الرئيسية للقب البطولة هي (الديمومة) في الذاكرة الوطنية وفي عقلها الجمعي، وأعني بالديمومة هنا (الإرث التاريخي) إرث المواقف الوطنية المُشرّفة لا المُعرّة، والمواقف الشخصية الفاخرة كذلك؛ فهما صنوان لا يفترقان. اعتقد أننا جميعًا بحاجة مُلحّة الآن لمراجعة خرائطنا الجينية، وذلك للتأكد من انقراض (جين) البطولة وسِماتها الفخمة – لا سمح الله -؛ إما لتقبّل أمر هذا الواقع المُخزي والحقيقة الطبيعية المؤلِمة (أو) لإثبات العكس بأقلّ تقدير، وإن ثبت العكس – إن شاء الله – قد نتمكن من إفراز الحدّ الأدنى من الأبطال نساء ورجال ولكن قسرًا.. لنطبّق بذلك مقولة (نيتشه) أن “الهدف من الإنسانية يكمُن في أفضل العيّنات”.
عبثية اللحظة الراهنة وتيه البوصلة الوطنية وانحرافها نحو الذُلّ والإذعان والتخلّف والرجعية بعيدًا عن مسارها الصحيح نحو (الكرامة)، سواء عن جهل أو حتى بسابق إصرار وترصّد فلا فرق، هو السبب الرئيسي لإخفاق (رجال ونساء) المرحلة الحالية في امتحانات البطولة والكرامة الوطنية تمامًا كالإخفاق الشخصي في امتحان الثانوية.
نحن جميعاً نعلم كبارًا وصغارًا أن التاريخ لا يصنع نفسه، هم الرجال الرجال والنساء النساء فقط من يصنعونه؛ بمواقفهم الوطنية العظيمة وقدرتهم على تحمّل مسؤولية قراراتهم (الجريئة) جدًا ونتائجها، مهما صعُبت الاستحقاقات وبلغت التضحيات أوجها في سبيل مصلحة الوطن ومواطنيه. هدفهم الأوحد والوحيد هو (هدم) واقع سيء وفاسد (لبناء) مستقبل مشرق وصالح، لذلك أثّروا فينا جميعًا إيجابيًا سيّما من عاصرهم ومن جاء بعدهم، وأَثْروا تاريخنا الوطني وصنعوه بفخر كذلك.
البلد التي تمرّ بمحن وصعاب – وما أكثرها حاليًا – سياسية كانت أم اقتصادية واجتماعية أو حتى هزائم عسكرية تكون بحاجة إلى أبطال (أحياء) استثنائيين لإحياء الروح المعنوية الهزيلة البائسة لدى مواطنيها، وإذكاء الأمل لديهم بانتزاع حقوقهم المتآكلة من تلك القوى المتخاذلة، لا قتلها وتهشيمها بضربات قاتلة متتالية ومتوالية في ذات الوقت. نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى لأبطال لا (لأنتيكات)، تكون لديهم رؤية واضحة وروح بإرادة عالية لِنٓقْل تلك الروح عن طريق (العدوى) للجميع بلا استثناء، وذلك لصناعة تاريخ مُشرّف من الخَلَفْ اقتداءً بالسَلَفْ. وكما قال هيجل: “إن الرجال التاريخيين العظام هم الذين تشتمل أهدافهم الشخصية قضايا عُظمى تُمثّل إرادة الروح العالية”.
أولئك الأبطال الذين نتغنّى بهم (بنستالجيا) أليمة وحسرة شديدة، وظّفوا رأسمالهم الشخصي لخدمة الرأسمال الوطني دون أدنى تردّد وبقدرة عجيبة. أتدرون لماذا؟؟ الجواب: لأن أولئك الأبطال اعتمدوا على (المصلحة الوطنية) أولًا بإجماع الشعب ولخدمة الشعب أيضًا، بعيدًا جدًا عن (الغلبة الانتخابية) لصالح مقعد حرير أو منصب مُثير أو مال وفير. آنذاك فقط شعِر المواطن (بالأمن والأمان) لا بل شعِر أيضًا بالمواطنة الحقيقية وبالانتماء الفعلي للوطن بوجود أولئك الأبطال أو حتى بعد أن غيّبهم الموت.
أما عندما تركوا بمغادرتهم لنا فراغ سياسي وطني وشعبوي، وغابت بغيابهم نماذج مثيلة مُشرّفة بل انعدمت كذلك، وتزامن ذلك الفقد بتوالي المصائب العربية وتتالي الكوارث الوطنية وهزيمة الروح المعنوية وانتهاك الحقوق الإنسانية حتى وصل الأمر حدّ امتهان الكرامة الشخصية، هنا وهنا فقط هي الكارثة الحقيقية المرعبة والخطيرة في آن؛ لأن (الكرامة) هي أغلى ما يملكه الإنسان ويتغنّى به المواطن وما تبقّى له فعلًا، فماذا تنتظرون الآن؟
اعملوا بقول عمر بن الخطاب “تفقّهوا قبل أن تسودوا”؛؛ فالمسؤولية تكليف لا تشريف، وهي أيضًا أمانة وقد تنقلب خزيٌ وندامة في يوم القيامة.. فاغنموا حياتكم بالصلاح وبالتّقى؛ فالموت على غفلةٍ آتٍ في صباحٍ أو ربما في مسا.
وعندئذ فقط تكون حياة الأبطال أطول بكثير من حياة قاتليهم أو غادريهم أو خونة الوطن، أتعلمون السبب؟؟ لأن حياتهم مليئة بشذى مواقفهم الوطنية وأريج إنجازاتهم التاريخية (العطرة) لا تلك الحالية (العكرة) لأنتيكات الوطن.
من المفروض أن يكون الانتماء الحقيقي للوطن دامغ لا لُبْسَ فيه ولا حتى اجتهاد وتأويل أو فلسفة، وبعيدًا جدًا عن فقاعات (الظواهر الصوتية) الفارغة. في كل حدث للأسف الشديد – وما أكثر الأحداث حاليًا – تكون ردود فعل المواطنين هي موجات أقوال مؤقتة لا فزعات أفعال مؤبّدة، على الرغم أن حكاية اليوم هي ليست فقط (قوانين رديئة، ولا ارتفاع أسعار، ولا الفساد والإفساد وغيرها من هموم الوطن ومواطنيه)؛ وجع المواطنين اليوم هو في (كرامتهم) وكرامة وطنهم، فقط هي الكرامة عزائهم الوحيد وترياق صبرهم ومرهم همّهم عن شحّ حالهم وضنك دُنياهم. فكفى للمساس بها وكفى لانتهاكها، ولا تراهنوا على صبرهم أبدًا فهذا هو اللعب بالنار حقًا؛ فكرامتهم هي عنوانهم، وعندها وعلى محرابها فقط تُنحر الرؤوس وتُكسر النفوس وتُدعس الفلوس، فهي رصيدهم المتبقّي؛ كفى ثم كفى وألف كفى للعبث بالوطن وأمنه وهيبة مؤسساته وأرواح رجاله الأشاوس وكرامة مواطنيه.
وأختم بكلمات محمود درويش “عامٌ يذهب وآخر يأتي وكل شي فيك يزداد سوءًا يا وطني”. وعلى رأي أحمد فؤاد نجم أيضًا “يا أنتيكات: يا ميت خسارة ع الرجال”.. وتوكيدًا لقوله لا تطاولًا عليه أقول هنا أنا أيضًا: يا ميت ألف خسارة على (بعض) الرجال والنساء، (أنتيكات الوطن).
بالتأكيد لم ولن ينتهِ الحديث في هذا المقام، ويبقى في كلّ مقال دومًا للحديث من بقية… دمتم..
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found