إن كان (وأد) البنات بدفنهنّ أحياء بعد ولادتهن مباشرة لتموت مرة واحدة قد ساد في عصر الظلام، فإنه قد عاد في عصر الانفتاح (العصر الحالي) بحلّة حديثة ليدفن النساء مرات ومرات دون أن تموت؛ هذا هو (وأد النساء)، حيث الكثير الكثير من النساء تموت يوميًا وهي ما زالت على قيد الحياة.
هل يوجد حياة أصعب من تلك الحياة التي يموت فيها الإنسان أكثر من مرّة قبل الموت النهائي؟؟ الأخير بيد الله وأمره ولا نملك سوى الرضا بقضائه وكلنا لها، لكن الموت أكثر من مرة هو بيد (بعض) البشر المليئة قلوبهم بالكثير من القسوة كالحجر، فتتساقط أقنعتهم كتساقط أوراق الشجر في خريف بارد قاتم موحش خالٍ من قطرات المطر.
وأد النساء في الوقت الحاضر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوأد البنات في السابق مع اختلاف الطريقة وتمايز الأسلوب وتغيّر الهدف.
منذ بدء الخليقة والمرأة تتعرض لشتّى أنواع التمييز والتحقير والتهميش وإنكار لحقوقها في جميع العصور وحتى الآن، على الرغم مما ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام؛ “قدوة رجال الأمّة” بأن (النساء شقائق الرجال). لكل من المرأة والرجل دور في الحياة لا يتعارض مع الآخر، وإنما يُكمله بتناسقٍ بديع وتكاملٍ رائع وتوافق فريد.
بالرغم من التقدم والتنميّة، ومواثيق حقوق الإنسان، وكافة المؤتمرات المعقودة، والمنظّمات والحركات المعنية بحقوق المرأة والدفاع عنها، إلاّ أن (وأدها) مجازيًا في عصر الحداثة والتطور ما زال في ذروة نشاطه وأوج ممارساته؛ في الأُسر والمؤسسات والقوانين وغيرها.
الرعونة الغالبة عند بعض الرجال وبعض النساء كذلك – حتى المرأة توئد المرأة أحيانًا فهي غير مُعفاة من تلك الجريمة – والتعالي على النساء دون مبرّر، سوى العنجهية والتعنّت بالرأي الخاطىء دون منازع. يصبّ ذلك كله في إذلال المرأة ووأد وجودها وحضورها وحقوقها بكافة الطرق البغيضة، بغطاء (مزيّف) بالشرعية تارة، وغطاء (مزيّن) بالقانون تارة أخرى. هذا هو الوأد القبيح بعينه وامتهان كرامة المرأة، فيقودها ذلك حدّ تمنّي الموت كلّ يوم.
الظلم الواقع على المرأة في مواقع كثيرة تبلغ ذروة زيفه إلى مستوى قد يبدو في مظهره (الخير) ولكنه في جوهره مليء ببذور (الشرّ)، وهنا تكمُن الخطورة والتمادي في الإيذاء. مظاهر (وأد النساء) وأشكاله كثيرة جدًا، يبدأ أولًا في أُسرتها ثم في بيت زوجها ويأتي مجتمعها ومؤسساته ليتوّج وأدها بضمير ميّت على ذات الوتيرة.
أول مشهد من مشاهد وأد النساء مثلًا إجبار المرأة على إجهاض المولودة إن كانت أنثى، أو إجبارها على الزواج وعلى الطلاق أحيانًا، وبعد ذلك يستمر مسلسل الوأد ومشاهده التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
سأذكر بعضًا منها هنا على سبيل المثال لا الحصر، كحِرمانها من التعليم أو العمل بحجة الحفاظ على (الشرف) والخوف من الاختلاط، حتى لو كانت تلك رغبتها وأدائها الأكاديمي والمهني أكثر من رائع، وحرمانها أحيانًا من مشاهدة التلفاز واستخدام الكمبيوتر والهاتف الذكي وقيادة السيارة وغيرها من أبجديات الحياة الحديثة بحُجة حمايتها من الفساد والإفساد. لا تستغربوا تلك الأمثلة فهي نعم موجودة وبكثرة تُدمي القلب وجعًا من شعور اللاحيلة أمام تلك النساء اللواتي يقطرن ظلمًا.
أما حرمانها من ميراث أبيها وأمها بحجة منع وصول الأموال للغريب قد تصل حدّ اتهامها بشرفها في الكثير من الحالات، واستغلال قانون القتل بادّعاء الشرف زورًا وبهتانًا فحدّث بذلك بلا حرج. بالإضافة إلى حرمانها أيضًا من ميراث زوجها وتجريدها من حقوقها الشرعية والقانونية لأنها لم تنجب منه أو لم تنجب الذكر، وتجريدها كذلك من كل ما يتعلق به حتى اسمه ونبذها كالغريبة كمُبرّر لظلمها وسلبها حقوقها من إرثه التي منحها إياها شرع الله السماوي قبل منحها إياها من قوانين عباده الوضعية؛ فيتم التعامل معها وكأنها عشيقته لا زوجته على سنّة الله ورسوله !!!
لعلّ القضايا المنظورة في المحاكم الشرعية من أولئك الذئاب والثعالب البشرية المليئة قلوبهم بالمكر والخداع والحقد والطمع خير دليل على ذلك، طبعًا سلاحهم لا يتعدّى الكذب المرضي الذي يتم تزيينه بحِلف الأيمان الكاذبة، كيف لا وجين الطمع والكذب يسري في عروقهم ولا يتورّعون عن أكل لحم الأخ أو الأخت حيًا أو ميتًا، وعلى رأي المثل “قالوا للحرامي احلف، قال الحرامي أجاني الفرج”.
فإن لم يخشَ الحرامي الطمّاع من عقاب الله وغضبه هل سيحسب حسابًا إلى دعوى المظلوم وكُره الناس واحتقارهم والسمعة السيئة والعار الذي سيلاحقه هو وكل من يصفق له على الظلم والسرقة والتبلّي؟؟ الجواب هو لا بالتأكيد.
هذا هو الحال عندما يتحالف مكر الخبثاء مع رعونة الجهلاء في ظل صمت الحكماء، حتمًا ستضيع حقوق النساء. نقول لهؤلاء الشياطين (شياطين الإنس) قول الله تعالى “يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين”. والظلم ظلمات.
ومن مشاهد وأد النساء الحديث أيضًا؛؛ حِرمانها من البوح لأهلها بصراحة مُطلقة عند تعرضها للتحرش وتحمّل سوء العواقب لوحدها خوفًا من عقابهم، التحرش بالمرأة بحدّ ذاته بمختلف أشكاله أوضح مثال على وأدها وإهانتها لأنه يختزلها إلى سِلعة مُغرية فقط.
حِرمانها من الزواج بمن ترغب والخضوع لشروط الأهل في تزويجها، وصمة المرأة المُطلّقة التي تلاحقها طيلة حياتها هي من مظاهر الوأد الحديث كذلك، تصغير المرأة وتقزيمها مهما بلغت من درجة الثقافة والعلم والأخذ برأي الرجل وإن كان أقلّ منها أخلاقًا وشرفًا والتزامًا. وغير ذلك من المشاهد القميئة الكثيرة تعيش كل امرأة منّا إحداها في أقلّ تقدير وربما أكثر.
ويبرز وأد المرأة بصورة جليّة بعد زواجها، حيث تبدأ سلسلة جديدة من الوأد القبيح جدًا، فإن كانت تعمل مثلًا فهي محرومة من دخلها، يأخذه الزوج كما كان يأخذه الأهل قبله، وهي مطلوب منها العمل خارج المنزل وداخله بفمٍ ساكت ودون أجر أو حتى تقدير.
ومطلوب منها أيضًا رعاية الأولاد وإطعامهم وتدريسهم والإشراف على جميع احتياجاتهم واحتياجات المنزل، وفي ذات الوقت مطلوب منها كذلك أن تكون خليلة لزوجها وأن تكون دومًا في قِمّة عطائها وجمالها ومُستعدة لتلبية رغباته في أي وقت رغم جميع مسؤولياتها وقلة ساعات نومها. وإن قصّرت بأي مما سبق بسبب كثرة الضغوط أمسى ذلك الذريعة والسوط لضربها ووأدها حيّة؛ إما بخيانتها بشكل متكرر ومن تحت لتحت ثم اتهامها بالمرض النفسي في حال كشفه، أو بزواجه عليها بدم بارد رغم جميع تضحياتها وتنازلاتها، وفي حالات كثيرة يخونها من فلوسها (هي) المغتربة عنها كالمغترب عن وطنه.
ومطلوب منها أيضًا غفران نزوات زوجها اللامتناهية وعدم الاعتراض البتّة، فهو رجل يحق له ذلك ولا يلومه لائم على سلوكه المشين لا أهله ولا مجتمعه، بينما هي لا تستحق الحُبّ والتقدير والاحترام كالعشيقة لأنها ببساطة شديدة (زوجته) المضمونة، وأم أولاده، ويبلغ وأدها ذروته عند تطليقها وحِرمانها من جميع حقوقها ومن أولادها أحيانًا، ناهيك طبعًا عن التعنيف بجميع أشكاله.
وبما أننا نتحدث هنا عن ظاهرة قديمة حديثة متجددة في وأد النساء، لا بدّ أن ننوّه أيضًا إلى نمط الزواج الحديث الفتّاك المنتشر حاليًا، وهو بحث الرجل عن المرأة الغنية وملاحقتها وتمثيل الحُبّ عليها للزواج منها ونهب أموالها، وبعد الزواج إن رفضت تمويله يصبح (عنف الإهمال) عقابها، وقد يتطور الأمر إلى خيانتها أو هجرها ويذهب لاهثًا لِمن هي أغنى منها وأغدق في الصرف عليه دون حساب، ومن الممكن جدًا لهذا النمط من (أشباه الرجال) أن يترك أُسرته وأولاده ويصرف عليهم من أموال خليلاته الثرّيات.
من أبرز صور وأد النساء في العصر الحديث كذلك حِرمان المرأة المؤهلة من المشاركة السياسية في وطنها وإعطاء فرصة الظهور للمرأة (غير المؤهلة) لصالح ذكور عائلتها وعشيرتها وقبيلتها، لا تنجح تلك المرأة في حالات كثيرة في مواقع صنع القرار لقلّة خبراتها وذكورية أفكارها، فتغدو هي (النموذج المعيار) بأن المرأة لا تصلح إلاّ للبيت والمطبخ للأسف الشديد، مُتجاهلين بذلك ومُتغافلين أيضًا نجاح النساء في المجتمعات المُتقدمة في تلك المواقع بصورة تفوق الرجال آلاف المرات.
هناك الكثير الكثير من المشاهد لوأد النساء الحديث قد نحتاج أن نفرد لها مجلدًا هذا إن انتهت. لا مناص من الإشارة هنا أننا لا نستطيع التعميم بالطبع، لأن نساء الأُسر الغنية غير الفقيرة، ونساء المدن غير القرى، ونساء مناطق العالم الثالث غير المتقدم، ونساء ضحايا الحروب غير نساء المُدن المستقرة أمنيًا وسياسيًا، أضف إلى ذلك الفروق الفردية بين النساء أنفسهن واختلاف درجات الظلم الواقع عليهن بناءً على مُتغيرات مختلفة. وفي كل الأحوال وبالرغم من هذا الاختلاف، إلاّ أن وأد النساء وظلمهنّ موجود بشدّة إلى الآن، ولكن تختلف صورته بين امرأة وأُخرى وأُسرة وأُخرى ومجتمع وآخر.
وسط كل هذا الافتراء والظلم والقهر، وصخب وأد النساء الظالم القامع، ستبقى (المرأة الحقيقية) شامخة سامية كسماوية السماء لا كزرقتها.
دومًا وحتمًا لهذا الحديث من بقية، وهذا الحديث على وجه الخصوص له بقايا كثيرة… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found