الحرية مفهوم سامي وسقفها بسماوية السماء، لا يمكن اختزالها بمعانٍ محددة، وإذا كان تعريف الحريّة يقزّمها ويفرغها من محتواها، فإن (أنسنتها) وتقنينها في عالم افتراضي لا يلجمه زمان أو مكان يجعل منها شخص بلحمٍ ودم سينتهي أجله يومًا ما.
الحرية في العالم الافتراضي تتحول إلى موسيقى عند الرضا وخيلًا جامحة عند الغضب؛ فهي تمازج بين الإغراق الأنثوي وشجاعة الفرسان.
حرية التعبير والتنفيس في حيّز العالم الافتراضي هي نافذة على المجتمع وأحواله، وهي محاولات لترجمة قلقنا جميعًا نحو التغيّرات المحلية والعربية التي تجتاح مجتمعنا في خضمّ روح التسارع العاتية في كل شيء.
من المفروض أن يكون هذا الفضاء محاولة إيجابية لتنفيس هذا القلق بإنتاجية وعلمية، دون ارتباك أو تخبّط أو حتى جلد للذات أو إسقاط على الآخر. ولكن في الحقيقة ما يحدث هو العكس تمامًا.
في هذه الحقبة؛ حقبة العالم الافتراضي وعالم التواصل الاجتماعي لم تعد مسرفة في التخصص الدقيق على مبدأ (أعطِ الخبز لخبّازه)، وإنما باتت جميع التخصصات العلمية والإنسانية والأوضاع الاجتماعية والسياسية مجالًا مفتوحًا لفتوى الجميع وتناقلها دون تمحيص.
فلم يعد الإعلام لأهل الإعلام ذوي التخصص مثلًا، ولم يعد القانون من شأن رجل القانون وحده!! أمسى القياس والتأويل مُتاحًا وجائزًا في كل العلوم وجميع التخصصات في هذا الفضاء الواسع، وبات من المُتاح جدًا الإفتاء العشوائي، والاجتهاد الغرائزي، والثرثرة العبثية، والحكم المسبق، والتقدير الفضفاض في كل شيء خاضعًا لوطأة ذلك الفضاء الإلكتروني دون حسيب أو رقيب.
فإما السكوت المُطلق على التمادي وإما تكميم الأفواه المطبق للتفادي، لا وسط أبدًا، إلى أن وصل الأمر حدّ تسكير الأفواه وتبليكها إلكترونيًا دون رحمة. سلوك مُتطرّف يتراوح بين أقطاب مُتضادة مزعج جدًا. ونتساءل هنا من السبب ولماذا ؟؟؟
لا أحد يستنكر على الناس رغبة الاستمتاع (باللغو) في الشأن الاجتماعي والسياسي المحلي والعربي على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن حسب الأصول وبحدود، والأهم الأمانة والمصداقية العالية، فالحرية دون حدود هي حتمًا فوضى بلا قيود. ولا أحد يستنكر أيضًا التنفيس عن مُختلجات الهمّ العام، فهو همّ اجتماعي بالدرجة الأولى يحقّ للجميع ممارسته افتراضيًا وواقعيًا على حدّ سواء. المطلوب فقط أن يكون البوح والتنفيس مبنيًا على مرجعية صحيحة إذا كانت في شأن هام يخصّ الجميع، بدلًا من الوصف الاعتباطي الذي يتم تبنّيه من قِبل السواد الأعظم جماعات وفرادى – كما هو سائد – دون تمحيص أو حتى تفكير.
المطلوب الآن هو هامش لإعطاء العقل فرصته جنبًا إلى جنب مع العواطف، وإعطاء التحليل مكانته مع السرد أيضًا، وإعطاء الموضوعية محلها في ظل الفوضى السائدة.
الحرية نتحيّز لها جميعًا وجوديًا وننزع إليها كُلّنا وجدانيًا، يتفق على حضورها كلّ الناس ويختلف على حدودها كلّ الناس كذلك. فإذا كان هدف الحرية هو القلق على حقوق الإنسان ورصد عدم تجاوز تلك الحقوق، فإن مُكملات صيانة الحقوق العامة والحفاظ على مكتسباتها والوصول إلى مستويات أرفع منها، يكمُن في قدرة السلوك الاجتماعي في جميع أُطره على الإطلاق على قبول تحدّي معطيات الحرية، والتكيّف مع مساحتها، للاستمتاع بحيّزها دون مغالاة تشقّ أثوابنا وتُعرّينا أفرادًا وجماعات وتُعرّي الوطن كذلك.
لا شكّ أن الأمل الذي يحدونا جميعًا هو سقف من الحقوق (شامخ) ومترفّع، ولكن شموخ هذا السقف المرغوب لا يتناسب أبدًا مع مستوى سقف واجبات “قزم” !! فلا يُمكن إعطاء رخصة قيادة شاحنة لِمن اعتاد ركوب البسكليت، وقيادة مركبة بمحرك كبير وسرعة عالية بالتأكيد يحتاج إلى أوتوستراد مفتوح، وحتمية الخبرة والحِكمة، وانعدام التهوّر والرعونة لدى سائق تلك المركبة جنونية السرعة.
من الواجب علينا جميعًا (حكومة وشعب) أن يكون هذا الفضاء مساحة حريّة (مسؤولة) لإلقاء الضوء على قضايانا وهمومنا، وتحولاتنا المرتقبة، وردّات فعلنا الفردي والجماعي اتجاهها.
عندئذ لن نحتاج إلى قانون جرائم إلكترونية يكمّم أفواهنا، ووقتئذٍ فإن وجوده لا يفرق من عدمه، ولن يُرعبنا ويثير استفزازنا تعديل بنوده أو تشديدها، لأن حريّتنا الافتراضية مسؤولة وليست بحاجة إلى من يردعها أو (يبلّكها).
نريد حريّة تتفق مع قيودها التي أعدّتها (هي) لنفسها بقسوة بما فيه مصلحة الوطن (طوعًا) دون نسخ عن الآخرين أو (قسرًا) من الآخرين، في تلك الحالة حتمًا سندافع عن خياراتنا المسؤولة (بالتزام) وثبات ليس في قاموسه (الحلول الوسط). فليس من المعقول أن نقبل بعد الحرير رداءً..
تبليك حريّة الأفواه إلكترونيًا دومًا له بقية… دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found