اعتقد أن الإرهاب (السافر) واضح للعيان ولا حاجة لذكره أو حتى مناقشته، أما الإرهاب (المُلثّم) هو ما يستحق المناقشة في الوقت الحالي لأنه أخطر من الأول على الإطلاق. تكمُن خطورته في تغلغله في مؤسسات التنشئة الاجتماعية كافة ابتداءً بالأُسرة مرورًا بالنظام التعليمي والإعلام ثم الأنساق الأُخرى للمجتمع بوحداتها الكلية والفرعية على حدّ سواء..
الإرهاب المُلثّم المُستشري في تلك البُنى الاجتماعية الكبرى منها والصغرى، يحمل في ثناياه كافة أشكال العنف والعدوان البشري والعنصرية والتطرف واغتيال الآخر، الذي ننقله جميعًا لأطفالنا بوعي أو دون وعي، لا فرق، ثم نستغرب فيما بعد تزايد حالات الإرهاب؛ سواء العنف أو التطرف أو العنصرية وغيرها من الظواهر البغيضة المُنتشرة حاليًا كالنار في الهشيم..
وللحدّ من آثار (الإرهاب المُلثّم) وجب علينا جميعًا من رأس الهرم إلى قاعه مُعالجة أنواع المؤثرات كافة التي يتعرّض لها الطفل؛ فألعاب الحرب واللعب العسكرية مثلًا مفيدة – نسبيًا – للأطفال، لأنها تعمل كمنافذ تتسرب عبرها مشاعرهم السلبية العدوانية المليئة بالغضب والتمرّد والعناد، ولكنها بالمقابل، تُمهّد كثيرًا وتفرش الأرض بسهولة لتقبّل العنف والعدوان أيضًا. ذات الشيء ينطبق تمامًا على مشاهد العنف في الفضائيات وأفلام السينما والرسوم المُتحركة الحديثة وأفلام الكرتون وكذلك الكاريكاتيرات.
الادّعاء بأن هذه العروض الإعلامية والواقعية للعنف تُروّض فروسية الطفل وتُنشّط فيه الصلابة والبطولة والرجولة هو محض خُرافة، وحقًا لا تصحّ عليه كلمة أفضل من كلمة (ادّعاء) لا غيرها.
وإن صدقت نظريات الوراثة بأن الطفل يولد مزوّدًا بنوازع الغرائز العدوانية – لا سمح الله – حتمًا لن يصدق معها أن ذات الطفل يولد عارفًا كذلك بوسائل التنفيذ لذلك النزوع البشري العدواني القبيح !!
ولو قارنّا بين طفلين، أحدهما تُرك بدون تثقيف إعلامي وواقعي بهذه الطرائق البشعة للبطولة والرجولة، بآخر تم ترويضه على مشاهدة هذه المظاهر من التعذيب والتدمير والتعنيف وفنون القتل والقتال، تلك المقارنة على الرغم من عدم عدالتها إلاّ أنها تُظهر لنا أثر التربية الهزيلة والتعليم الخاطىء وخطورته في بروز الميّل نحو العنف بشكله المُدمّر. وفي الوقت الراهن يشاهد الأطفال تلك المشاهد (حيّة) على أرض الواقع في الوطن العربي المكلوم..
أكاد أجزم الآن أنّنا بأمسّ الحاجة إلى نفض الغبار عن التعاليم الدينية الكريمة التي توصي بالحدّ من (العدوان على الغير)، بدلًا من تركها في طيّات الكُتب المقدّسة على الرفوف أو التغافل عنها (عمدًا). تلك التعاليم الأخلاقية من المفروض أن تتغلغل في أنسجة حياتنا اليومية وتنعكس في أخلاقنا لا عباداتنا فقط، خصوصًا في الوقت الراهن، وتوظيفها توظيفًا (حيًّا) في سلوكاتنا وتعاملاتنا لخِدمة هذا الهدف السامي..
من الممكن جدًا تخريب جيل كامل بالتعليم الخاطىء والإعلام الهدّام، وجيلًا كاملًا بالمقابل يمكن بناؤه بالتعليم النوعي والإعلام النظيف البنّاء، بعيدًا كلّ البعد عن معالم العنف والعنصرية والتطرّف ورفض الآخر، هذه هي أعمدة (الإرهاب المُلثّم) المُرعب، وهذا هو مفهوم البطولة والرجولة والوطنية المغلوط والمشوّش..
على سبيل المثال، إن كُتب التربية والتعليم المدرسية تحمل الكثير من مشاهد البطولة بربطها بمشاهد القوة؛ فالكُتب التي تعتبر العنف والمعارك والجهاد وحدها عنوان (للبطولة) يجب أن تشمل كذلك إلى أن الفتوحات العلمية والأدبية والفنية هي بطولة أيضًا..
حاجة المجتمع إلى الطبيب والمهندس والفنّان والمُعلّم وعامل الوطن، لا تقلّ أهمية عن حاجتهم للجندي المُقاتل حامي الوطن كذلك، فأولئك هم (بُناة) الوطن من الداخل، أما الجنود فهم (حُماة) الوطن من الخارج. وهم جميعًا أبطال شأنهم كشأن الجندي تمامًا.
عند تضمين ما سبق في المناهج وتقديمه بشكل صحيح من المُعلّم على وجه الخصوص، عندئذ فقط يتم (الإيحاء النفسي) للطفل بأن البطولة ليست رديف العنف وإنما هما أضداد. وكذلك الأمر عندما نُعمّم استخدام الكلمة – أي البطولة – في الكُتب والمناهج وأنظمة التربية والتعليم جميعها بتوزيع عادل على نواحي الحياة المُبدعة وجميع مساربها، وهنا فإن كلمة (البطولة) ستفقد حتمًا حقّ احتكارها وسيسقط حقّ مصادرتها لصالح جانب واحد فقط لا يُثير سوى العنف..
لو استعرضنا تاريخ روسيا مثلًا، فلم يصنعه أبطال ستالينغراد بدمائهم لوحدهم، بل شارك في صنعه مكسيم كوركي، وتولستوي، وديستويفسكي، بأدبهم وأفكارهم وكُتبهم، إن لم يكن أكثر. وكذلك الأمر لتاريخ العرب؛ فهو لا يقتصر فقط على تاريخ عنترة بن شداد وخالد بن الوليد، بل تاريخ ابن حيّان وابن النفيس وابن خلدون والمتنبّي وغيره..
صحيح أن البطولة العسكرية هي مجد من أمجاد الشعوب، تصون بها ذاتها وتُراثها ووطنيتها وأوطانها، ولكن، ليست وحدها كلّ المجد. هذا ما يجب أن نُعلّمه لأطفالنا؛ بأن الوطنية (مُلكٌ مشاع) لعمل الجميع المشترك يدًا بيد، وأن لا نُصفّق بيد واحدة على الإطلاق..
التقاطع الشائك بين البطولة والرجولة والعنف في صراع الفِكر الإنساني هو الذي يصنع (المُنحنيات)، واسمها يكفي للإشارة على عوجها وانحرافها المُرير. الوطنية البطلة لا يحميها سوى الشعور (بالأمن) ولا يُحطمها إلاّ الشعور (بالخوف) والجوع.
هذا الشبح – شبح الإرهاب المُلثّم – الذي يُطاردنا الآن لهو (رسول) لنا للبحث عن الأمن في زوايا العقل لا في مطارق العنف؛ فالعنف لا يجذب إلاّ العنف وهو صنوّ تمزيق الوطن وتقسيمه، أما الذلّ فهو إخصاء الرجولة..
في الحقيقة إن (العنف والعقل) هي ثنائية متضادة بخط متوازٍ من المستحيل أن يلتقيا…
حتمًا هناك بقية لهذا الحديث… دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found