شعار المُستبدّ في أي أُسرة: “الكلّ أنا وأنا الكلّ”، وطفل الأُسرة المستبدّة المدلّل هو الاعتداد بالرأي الواحد، ذلك الطفل (النرجسي) هو أكبر معضلة عانى منها الإنسان عبر تاريخه الأُسري على الإطلاق؛ لأنه السبب الرئيس للكثير من آلامه وتعبه النفسي وفشل علاقاته.
الاستبداد بشكل عام مرض نفسي اجتماعي بامتياز، يجعل من حياة الأُسرة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام بيئة طاردة للكفاءة والإبداع، والحياة فيها لا تُطاق.
الاستبداد العقلي هو أول أنواعه ثباتًا وأكثره، أما أقلّه وما يليه فهو العاطفي، لأن الثاني يتأثر بعوامل التربية وضغوط الحياة. أما أخطر استبداد على الإطلاق هو ما يظهر في الفرد كانتقام من ماضيه، فيُمسي الإنسان هنا كالجمل الذي يؤجل انتقامه سنين عدة.
المُستبدّ إنسان مريض، أناني، مركزي الذات، انعزالي، يُعاني من النقص فيعوّضه بالاستعلاء على الناس؛ أقرباء وغرباء على حدّ سواء، يعتقد أن سيادته بلا حدود وقيادته بلا قيود، فشل في دخول التاريخ من أبواب المعرفة وفعل الخير فدخله من باب إيذاء الآخرين والتجبّر بهم.
ورفيق المُستبدّ الدائم هو السلوك الجائر المتغطرس المغرور، من خلال التعسّف بحريات الآخرين، وقمع آرائهم، وازدراء وجودهم. هذا هو سلوكه فهو عدوّ الحرية وعدوّ الكرامة..
العامل الوراثي هنا يلعب دورًا كبيرًا في توريث السلوك الاستبدادي، على سبيل المثال، قد يكون الأب مُستبدًا بالرأي فينشأ الابن مُستبدًا بحُبّ المال، وإن كان الأب مهووسًا بحُبّ النساء قد يكون الابن مُستبدًا بحُبّ الوجاهة الاجتماعية؛ فهنا الأب والابن متشابهان في تملّك الاستبداد ومُختلفان في طرق التعبير عنه..
وراثة الأطفال للسلوك الاستبدادي قد يُؤخذ إما من الأب أو من الأم، ووجدت بعض الدراسات أن (الأم المُستبدّة) أكثر خطرًا على الابن من (الأب المُستبدّ)، وتُعزي تلك الدراسات السبب في ذلك أن رابطة الأم بالطفل أبكر من رابطته بالأب، فتُملي على صغيرها ما تريده هي. واستبداد المرأة كذلك يُشوّه صورة الأب في ذهن ابنه، وهنا بالإضافة إلى توريث الاستبداد (الجيني) للابن من قِبل الأم، يُضاف التوريث (البيئي) لضعف نموذج الرجل من خلال صورة الأب أمامه.
لذلك يُعتبر استبداد الأم الأخطر؛ لأنها تُمارس دور المُنتقم من زوجها وأولادها فيما بعد، وأول من يتعلّم من الأم استبدادها هو (البنت)؛ فتُمارسه هي أيضًا على أُسرتها لاحقًا، ومن يدفع ثمن استبداد الأم مرضًا نفسيًا هو الابن (الذكر) الأول. تلك النتائج ليست اعتباطية بل هي خِبرة مُستقاة من المشاهدات اليومية لتلك الحالات ضحايا الاستبداد الأُسري.
وسواء كانت المرأة هي المُستبدّة أم الأب، تغيب الرحمة في الأُسرة ويغيب معها الشعور بالذنب، أما الأسوأ في حال الأُسرة وأحوالها عندما يكون كِلاهما مُستبدّان، فما يُقدمه كل منهما للأُسرة هو العيش الملوّث بالتكبّر والاستعلاء والتمنّن والأذى للأسف الشديد.
وفي كل الأحوال سواء كان الاستبداد موروث من الأم أو من الأب، لا فرق، فالأبناء هم من يدفعوا الثمن دومًا، فينشأ أولئك المساكين مسكونين بالإحباط الذي يولّد العدوانية وأخواتها. ندعو الله لنا ولهم أن لا يسلّط علينا من عاش محرومًا من رحمة الأب وحنان الأم..
ورغم كل ما ذكرناه سابقًا إلاّ أننا ما زلنا نؤكد على أن الاستبداد هو وباء (مولود) أكثر من كونه (موروث) فقط، أي أنه سلوك مُكتسب وصناعة البيئة.
ما يحدث في الأُسرة ينسحب على الوطن كذلك، فما هو الوطن أصلًا غير أنه جموعٌ من الأُسر ؟؟
وخوف الناس الدائم هو ما يصنع المُستبدّ، ويوجد الصنم، على الرغم أن المُستبدّ في النهاية هو إنسان؛ ولكنّه جبان جدًا، وما يجعله يبدو شجاعًا هو جُبن من حوله، وضعف من يقاومه، ونفاق وتزلّف “وتسحيج” من يستفيد منه..
فإذا كان لا بدّ مما ليس منه بدّ والاستبداد مُتفشّي بيننا، فأقول هنا بأقل تقدير أن استبداد ضمير (النحن) أرقى وأرفع مقامًا وأخفّ ضررًا من استبداد الضمير (أنا)..
أختم بكلمات جبران خليل جبران: “ههنا الاستبداد القاسي، وهناك الخضوع الأعمى. فأيهما كان مولّدًا للآخر؟؟ هل الاستبداد شجرة قوية لا تنْبت في غير التربة المنخفضة، أم الخضوع حقل مهجور لا تعيش فيه غير الأشواك؟؟”…
كفانا استبداد فهناك أُسرٌ مُستبدة بما يكفي …
حديثي معكم دومًا له بقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found