لا يُعاني المجتمع من قلة الحيلة الاجتماعية فقط وإنّما من اللاحيلة العاطفية كذلك، وتتجلّى تعبيرات هذه اللاحيلة كون المواطن طرفًا ضعيفًا في علاقة غير مُشبعة، وفي رغبته اللجوجة أن يصبح يومًا ما مواطنًا من الدرجة الأولى، وأن يكون في علاقة مُشبعة ومُتبادلة مع خيّرات الوطن المسلوبة.
تتوسط قِلة حيلة المواطن في بدنه وصحته على شكل أوجاع جسدية أو اضطرابات وظيفية أو ذهنية، كيف لا وهو دائم الأنين والشكوى من ضغوط الواقع الذي يعيشه على أنه ثابت لا يمكن تغييره، ويسير به من السيء إلى الأسوأ ونحو المجهول.
المواطن المُرهق نفسيًا سواء المكتئب أو القلِق أو حتى المريض هو هدف سهل لوهم تلبُّس (الجان) وهلاوس الإصابة بالمس، وعلى العكس من ذلك، فإن المس نفسه يُعزّز المرض والقلق والاكتئاب، فهذا المواطن الذي يعيش وضعية ضاغطة على مستوى لُقمة العيش وتوفير الخبز في الحدّ الأدنى كقوْت له ولعائلته هو أكثر عُرضة للإصابة بعدوى المس، ناهيك طبعًا عن انهياره العقلي والنفسي أمام رفع الأسعار والضرائب الجنوني وراتبه يتراجع أمامه للوراء يومًا بعد يوم.
إن نظرية المس هي في الحقيقة شكل من أشكال (الصعوبات التكيّفية) وطريقة من طرق الاستجابة للعوامل المثيرة، بالإضافة إلى وجود (القابلية) لتبنّي تلك النظرية؛ فالإيمان بالمُعتقدات السحرية القائمة التي تُعبّر عنها الخُرافات تؤمّن الخلفية المُلائمة لبروز ردود الفعل المُتعلقة بالمس في الوضع الحالي على وجه الخصوص، على الرغم أن المس نفسه ينتج عن ضغوط تعطّل قُدرات الفرد على التوافق مع المحيط وتراجع قدرته على التكيّف أمام ضغوط الواقع المُتزايدة.
التأويل الثقافي للمس هو ما يؤمّن له الامتيازات؛ فالمس قوامه تعذيب الفرد الممسوس، ومن يقوم بذلك روح شريرة دافعها الحسد والانتقام. لذا المواطن المُعذّب بالمس غير مُلام وغير مسؤول عن سلوكه اللاتكيّفي، فاللوم يقع على الشيطان، أو على الأرواح الشريرة، وهو المسؤول عن اضطراباته النفسية والسلوكية غير المسؤولة.
فاحذروا يا أولي الأمر من عواقب المس !!!
يُضاف إلى ذلك أن الممسوس يستطيع الهرب من واقعه المُزعج إما بالإقلاب أو ربما بفقدان الذاكرة الانتقائي، ومن الممكن أن يستخدم مروحة واسعة جدًا من السلوكات المُصنّفة سابقًا بأنها غير مقبولة وغير شرعية عُرفًا وقانونًا وباتت الآن مُبرّرة جدًا، كالسطو والسرقة مثلًا!!
فهو هنا يكسب إزاحة الانشغال من مواجهة الظروف الضاغطة بسلوكات ضاغطة على صُنّاع القرار بالمستوى ذاته من السوء، مثيرٌ بذلك اهتمام الأُسرة والأصدقاء والمواطنين وعطفهم وتعاطفهم. وهنا مكمن الخطورة، لعلّ تعاطف غالبية المجتمع وبكافة أطيافه مع سرقة البنوك مؤخرًا يشي بذلك بجلاء، احذروا يا أولي الألباب من عدوى المس !!!
المواطنون عمومًا يفتقرون الحيلة ومقوّمات الوقاية من الظروف الوطنية الضاغطة، كما يفتقرون أيضًا إلى (بدائل) من ردود الفعل الصحيّة في وجه مُحيطهم القامع وغير العادل.
المعايير الاجتماعية تتوقع من المواطن أن يكون طاهرًا ومُخلصًا وأمينًا ومُحبًّا لوطنه ومتفانٍ في خدمته على حساب نفسه ونفسيته، لا ضير في ذلك بالطبع، وهذا هو حُبّ الوطن الحقيقي غير المشروط، ويكون العطاء للوطن أجمل إذا كان مطلوبًا من الجميع بالدرجة نفسها، وإن كان توزيع خيرات الوطن على الجميع بالتساوي كذلك، وإذا كان الجميع سواسية أمام القانون أيضًا. في هذه الحالة فقط يصبر المواطنون على هذا الوضع الطاحن جدًا، وعندئذ فقط يتمكنوا من التضحية عن طيْب خاطر بمالهم وأنفسهم وأولادهم فداءً للوطن، بخلاف ذلك يصبح المس هنا الاستجابة الأكثر مُلاءمة لهذه الضغوطات ولتلك المُعوّقات الوطنية والاجتماعية.
ينطوي المس على أبعاد اجتماعية وسياسية لا يُمكن تجاهلها، فهو ليس شكلًا ثقافيًا للعُصاب فقط، ولكنه أيضًا شكل ضعيف من أشكال (الاعتراض) على الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القامعة. فالمواطنون حين يُصَابون بالأرواح الشريرة يورّطون الدولة في مسار عملية الشفاء، وهي ذات ثمن باهظ من الوقت والجهد والتكلفة، ومن هذا المنظور، فمتى جذب المواطنون انتباه أصحاب القرار والسُلطة بإصابتهم بالمس فهم يفرضون عليهم الدفع الفعلي لا الرمزي ثمن دورهم التسلّطي وثمن جورهم واستنزاف المواطن والوطن.
فالمس الآن هو وسيلة المواطن الوحيدة لتحدّي الهيّمنة والظلم، وحين ينسحب المواطن بالمس من العالم والهيّمنة المُجحفة يُسبّب في الوقت نفسه الحرج والمهانة لأولي الأمر في ذات العالم، ويستنزف مصادره المادية والاجتماعية، الأمر الذي يحدّ من سُلطتهم في ذلك العالم الذي انسحب منه المواطنون.
فالمس عند المواطن الفقير مسلوب المال والكرامة هو (ميكانيزم دفاعي)، يكون في الوعي تارة وفي اللاوعي تارة أُخرى، كشكل من أشكال المقاومة ضد تسلّط الحكومة أو الهروب من ضغطها وقمعها وجورها. فهي مقاومة متداخلة في نسيج حياته اليومية المُتعبة، وهو يأخذ هذا المنحى لأنها الوسيلة الوحيدة (المُتاحة) له في الوقت الحالي، والوسيلة المُتبقية أمامه التي يكسب فيها اهتمامًا وتعاطفًا.
فلا يسمح له واقعه القمعي اعتماد المواجهة المباشرة وحُريّة التعبير عن الرأي أو الصراع من أجل حقوقه بشكل حِزبي مُقنّن ومُنظّم كما يحدث في المجتمعات الأكثر تقدمًا للأسف الشديد، ممّا يضطره اللجوء إلى الخُرافات وادّعاء الجنون والاستسلام لقِوى ما ورائية لتحصيل حقوقه ومعرفة مصيره. وضع مُرهق ومُطبق في ذات الوقت سيُعيدنا إلى الوراء مئات السنين؛ فاحذروا.
كان المس سابقًا مرضًا تُصاب به المرأة فقط، لأنه الذريعة الأخيرة لها للخلاص من واجبات ضاغطة عليها وتمقتها، فمثلًا يمكن لتلك المرأة بموجب مرضها الادّعاء بأن الجان الذي بداخلها يمنعها من الاتصال الجنسي بزوجها !! دون الاعتراف – بوعي أو دون وعي منها – أن السبب الحقيقي هو نفورها من زوجها المفروض عليها وعدم تمكنها الخلاص منه، فلم تجد أمامها سوى هلاوس الجان وأوامره.
أما الآن اعتقد ولست أجزم أن المجتمع بأسره مُعرّض للإصابة بالمس، للخلاص من إناس غير مرغوب فيهم لا يمكن الخلاص منهم بالطرق المقبولة والأُطر القانونية، فالمواطن عندما يستنجد في لاوعيه بالجان لأنه لا يخضع لنواميس الإنس، ولأنه لا يُحاسب على أفعاله من قِبل الضمير الجمعي؛ فهو – أي المواطن – بهروبه إلى الجان هو في الحقيقة يهرب من نواميس المجتمع عندما ينطق الجان على لسانه، انطلاقًا بما هو سائد في الثقافة الشعبية فيما يتعلّق بالعلاقة بين الإنس والجان المبنيّة على الخوف والرعب والخضوع المُطلق والاستسلام من طرف الإنسان، والانتقام من طرف الجان.
إذن لا يحقّ لنا الآن الاستغراب إن تفشّت ظاهرة عدوى المس في مجتمعنا في ظل الوضع الراهن المُرعب، ولا يحقّ لنا كذلك استهجان بروز حواضن العنف وجيوب التطرّف والإرهاب، أو حتى الخوف من تنامي الجماعات التي تشعر بأفضليتها على الآخرين، وتُريد انتزاع اعتراف الجميع بقوتها عنوة، وفرض استحقاقها لخضوع الآخرين لها لأنها الأقوى وتتعامل مع قوى غيبية، فهي ببساطة شديدة قادرة على إشاعة الفوضى والقتل بدم بارد وإلقاء الرعب في المجتمع بأكمله. فجماعة (داعش) سابقًا وأخواتها وإخوانها مثال سافر على ذلك والحبل على الجرّار مستقبلًا، وهناك جماعة (الزعران) والفتوات والسحّرة والعرّافين والدجّالين وغيرهم الكثير.
فلا تغترّوا بردود فِعل المواطنين المطحونين على شكل النكات الضاحكة والتعليقات الساخرة التي تملأ صفحات التواصل الاجتماعي؛ فهي تشي بكمٍ هائل من الكبْت والغضب مُغلّف بالاستهزاء والمسخرة بسبب (اللاحيلة)، وهي في الحقيقة قنبلة موّقوتة قابلة للانفجار بلحظة غفلة، فاحذروا قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه.
ندعو الله تضرّعًا أن يحمينا جميعًا من تلك الأمراض المُعدية جدًا، وندعو أولي الأمر ضرورة الانتباه لِما يحدث حاليًا وعدم إهماله على الإطلاق؛ فالظلم يؤذّن بالخراب والدمار.. حمى الله الوطن وحمانا جميعًا، ولنا في هذا الحديث من بقية… دمتم.
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found