قال ابن خلدون في مُقدّمته العظيمة: “إذا رأيت الناس تُكثر الكلام المُضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم وهم قوم بهم غفلة واستعباد ومهانة كمن يُساق للموت وهو مخمور”. ومن بعده نقول؛ عند استعصاء “المواجهة” وإيجاد الحلول، تُمسي النُكتة هي الحل الوحيد (الآمن) للتفريغ الانفعالي.
النُكتة هي لغة المقهور للتنفيس عن المكبوت، تتسارع وتيرتها بشكل ملحوظ عند الأزمات، فيُطلق العقل العنان لِ اللسان للبوح والتعبير عمّا يجول في نفس صاحبه (المأزوم) تجنبًا لإصابته بالجلطة القاتلة؛ فيُحرّر نفسه من الغضب الداخلي الشديد واللوم المحبوس.
النُكتة اليوم هي “صمّام التوازن الاجتماعي” في ظل هذا الوضع الطاحن؛ فهي المنفس للصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد، علاوة على هذا وذاك، قد تكشف النُكتة أيضًا عن الوعي الشعبي في ظِل ما يحدث عندنا وحولنا من تناقضات تتميّز بالقُبح والسوء الشديدين، خصوصًا عندما يتعذّر الكشف عن تلك المُعاناة (جهارًا) وبحُريّة دون خشيّة من المُساءلة والمُتابعة في ظِل سطوة قانون (الجرائم الإلكترونية) المُجحف.
باتت النُكتة اليوم (البوصلة) التي تتّجه نحو مُلامسة حقيقة الأمور ومكامن الخلل ومواضع الاختلال وجرس الإنذار لمواطن الخطر؛ فوظيفتها الأولى على الإطلاق (تبليغ الرسالة) قبل إضحاك الناس والتنفيس عن مُعاناتهم. اعتقد أنها رغم خطورتها إلاّ أنها أقل الوسائل خطرًا الآن والأقل كُلفة كذلك، فاتركوا المواطنين وتعبيراتهم الافتراضية بالنكات وإن كانت لاذعة فذلك أضعف الإيمان.
لا يعني ذلك بالطبع السماح بالإساءة والاعتداء والتعدّي دون وجه حق والتشهير بالآخرين، وإنّما السماح بالتنفيس من خلال النكات في أقلّ تقدير، وتقنينها بقنوات مشروعة ومفتوحة للتعبير عن الرأي والمُشاركة في صنع القرار، عدا ذلك سنكون أمام مُجتمع يُصدّر العنف أو مُجتمع مليء بالمرضى النفسيين وأمراض القلب المُنهكة، وكِلاهما سيّان في السوء، لا فرق.
من المعلوم أنه يوجد علاقة (عكسية) بين النُكتة وحُريّة التعبير؛ فكُلّما ضاقت مساحة الحُريّات ازداد انتشار النُكتة وتداولها، وزادت معها كمية السُخرية في مُحتواها واللاذعة منها على وجه الخصوص، هذه هي (الكوميديا السوداء) بعينها، لا أدري حقيقةً المُسمّى اللائق بوضعنا الحالي أهو كوميديا سوداء أم تراجيديا صمّاء؛ فكِلاهما يشي بسوادٍ قاتم أحلك من سواد الليل..
ومن المعروف أيضًا أنه يوجد علاقة (طردية) بين سياسة تكميم الأفواه وكبْت حُريّة الرأي، وبين تطوير آليات دفاعية أُخرى تأخذ شكل الهزل تارة وتجاوز السقوف تارة أُخرى؛ فكُلّما زاد القمع كُلّما دفع نحو ابتكار أساليب جديدة في التعبير يغلب عليها الإغراق في “الرمزية” لجعل الرسالة في متناول المواطن بطريقة مليئة (بالتحايل) للإفلات من العِقاب. فلا قانون الجرائم الإلكترونية عندئذٍ سيقمع ولا السجون وقتئذٍ ستردع، اتعظوا يا أولي الألباب واحذروا يا أصحاب الولاية.
ليس من المعقول ولا حتى من المقبول ونحن في عصر (السوشيال ميديا) وعصر الانفتاح الثقافي التقنيّ ونحن ما زلنا نراوح مكاننا في كبْت الحُريّات جميعها، أؤكد مرة أُخرى هنا أن سيرورة الطبيعة البشرية تُجدّد دومًا استجابات جديدة للتكيّف مع التحدّيات التي تُواجهها نحو صيرورتها وكينونتها؛ فإن كان التعبير المُباشر ممنوعًا، فنحن نُواجه اليوم أساليبًا مُبتكرة غير مُباشرة لإيصال الرفض والشجب والاستنكار للسياسات المُجحفة في حقّ المواطنين وجيوبهم.
وبعد مُتابعة حثيثة لِما يتم تناقله عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون استثناء، نجد أن (الرسالة الرئيسية) التي تتضمّنها النكت والمُراد إيصالها للعيون الساهرة والآذان الصاغية – إن وُجدت الأخيرة – هي أن النهج المُتّبع لتسيير شؤون الوطن أعاد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية بهزلٍ شديد؛ فلا تستغربوا طريقة الصدّ والردّ بنكات لاذعة مرة وكتابات هزلية مرّات تليق بمستوى النهج (الهزيل) ذاته.
جميعنا يعلم أن النكت بشكل عام واللاذعة منها على وجه الخصوص بإمكانها توجيه الوعي وتغييره، وربما أثرها في العالم الافتراضي قد فاق أثر ما يقوم به المُثقّفون في العالم الواقعي في تشكيل (رأي عام)، ويعود السبب في ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي كبيرة الأثر وسريعة الانتشار وكثيرة المُشاركة لإحداث (التعبئة المعنوية) للضغط نحو التغيير المنشود؛ فأول أهدافها التعبير بالرفض غير المباشر للنهج، وليس آخرها التنفيس للتخلص من الإحباط، وهي بالطبع نتيجة حتميّة لغياب المواجهة أو بالأحرى منعها. وفي ذات الوقت تُساهم النكت الافتراضية الساخرة في تسهيل عملية الانسحاب من (وجع) الواقع الحقيقي المُستباح إلى (فرح) الواقع الافتراضي المُباح، خاصة في الفيس بوك ثم إخوانه وأخواته.
أي حاكم وأي مسؤول يُريد أن يعرف سيكولوجية جمهوره وشعبه عليه برصد النكت في عهده وفترة ولايته، عندئذٍ فقط سيعرف رصيده لدى المواطنين من التشجيع أو التسحيج، وتُساعده النكت كذلك من معرفة التوقيت الصحيح للقرارات الهامة أو المصيرية.
بعد كُلّ ما سبق يُمكننا القول سواء كانت النكات الحالية كوميديا أم تراجيديا، لا فرق، كِلاهما أسود يشي بواقع مُظلم ومُستقبل مُبهم.. ويا مُغيث…
وفي الختام أقول؛ وكأنّما الحياة رغم فواجعها الكثيرة جدًا، تبقى نُكتة هائلة وربما أكثر، ولا تستحقّ مِنّا بعد العناء والبكاء إلاّ النكت والضحك؛ فالأخير لا يأتي إلاّ من كثرة المتاهات، وكأنّما أيضًا سيبقى لنا من ذلك الحديث بقية… دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found