حتميّة الموت هي الحقيقة الوحيدة الأزليّة الثابتة والمؤكدة في هذه الحياة، وهو حقّ على الجميع وكُلّنا نحوه سائرون. وعلى الرغم من ذلك، ما يزال وقعه علينا كالصاعقة وطعمه شديد المرار للفاقد إلى حدّ قد يغدو سقمًا، والشفاء من حرارة الفقد وحسرته تحتاج وقتًا قد يطول أو يقصُر بناءً على شدة التعلّق والقرب من الفقيد.
أما في حالة (الغفلة) أي الموت المفاجىء بدون مقدمات ولا حتى كلمة وداع فإن حرارة الفقد تصل ذروتها وقد لا تنطفىء بسهولة، وربما تحتاج وقت أطول بكثير للشفاء من حالة الموت المتوقع، وفي كلتا الحالتين يأتي الموت دون أن يأخذ موعداً، ولكن الغفلة موجعة أكثر بمسافات بعيدة جداً لا يشعرها إلاّ من جرّبها..
وفي كُلّ الأحوال يبرز هنا السؤال الكبير الهام – موضوع هذا المقال – بعد أن يأتي الموت القهّار دون سابق إنذار لكم الخيار؛؛ فإمَّا البقاء في حالة الإنكار أو قرار الاستمرار، فماذا تختاروا ؟؟
الحسرة على الفقيد تُسمّى “بحسرة الحداد” تمر بمراحل تتصف بتقلبات السلوك والمزاج؛ فيتذبذب خلالها سلوك الفاقد بين مراحل عِدّة تتراوح بين حالة الإنكار ومرحلة التقبّل، وما بين الأولى والأخيرة يمرّ الفاقد في مراحل الغضب، والمساومة، والاكتئاب الذي قد يقود أحيانًا إلى الرغبة في الموت. وهنا تبرز شِدّة الإيمان بحِكمة الله أولًا، ثم قوّة الشخص وإرادته إما في اختيار الاستسلام والبقاء في أسْر مرحلة الإنكار، أم الاستمرار وتقبّل الواقع وإن كان قاسيًا، فمرحلة ما بعد الموت ومفاجآتها وفواجعها الصادمة تكون أشدّ قسوة من موت الفقيد نفسه في كثير من الحالات..
ردّة الفعل الأولى المُرعبة تكون بإنكار الشخص حقيقة الكلمات المُوجِعة، فهي درع الامتصاص الأول للسيطرة على الأزمة، وتلحّ الرغبة في هذه المرحلة في العُزلة والوحدة لاستيعاب وقع الفِكرة واسترجاع الذكريات والخوف من القادم.
وهنا فإنّ رفض الاعتراف بالموت حالة غير واعية ولكنّها مؤقّتة، وهي طبيعية تمامًا إذا استمرّت ساعات أو قليل من الأيام، وقد تطول أكثر أحيانًا لدرجة تصل حدّ المرض، وتظهر مرضيتها كُلّما باعدت بين الشخص الفاقد واعترافه بوجود خلل نفسي وحاجته الفعلية للمساعدة السليمة والتدخّل الاحترافي؛ (الطبّي، والنفسي، والاجتماعي).
وما أن يخلع قناع الإنكار عن الأبصار حتى يستشعر الشخص ألم الخبر، و يتم التعبير عن الألم النفسي الشديد بطريقة تحفظ ماء الوجه بتعبير ذي قوة ألا وهو (الغضب)، وغالبًا ما يتم توجيه تلك الشُحنة باللوم نحو الأهل والمُحبّين أو نحو الطبيب أو نحو المستشفى في بعض الحالات. وبالمنطق النفسي والأخلاقي يجب أن لا نوقع اللوم على أي من تلك السلوكات السلبية في هذه المرحلة بالذات إن حصلت؛ فالضريبة الاعتيادية على الأحباب والأقارب والأصدقاء وأحيانًا الأطباء تلقّي بعض النيران الصديقة عن طيب خاطر، كيف لا وهول الفجيعة على الفاقد تفرض عليهم تقبّل أي سلوك تفريغي لشحنة الغضب الموجعة جدًا ؟!!
وفي هذه الفترة تتملّك الفرد أفكار “اللانجاة” من الحقيقة المُرّة وغياب مصادر المُساعدة الحاسمة من ذلك الوضع الذي يرى أن جدّه جدّ وهزله جدّ، وهنا يحاول الإنسان أن يقبض على حِبال السيطرة بآلية المُساومة فتبدأ لغة (لو): لو انتبهت على صحته أكثر، لو ما زعّلته، لو ما تخانقنا، لو ولو ولو، لائحة لامتناهية من (اللوّ) التي لا تُجدي نفعًا ولا تُعيد الفقيد سوى أنها تشحن حرارة الفقد أكثر فأكثر.
وبعد تلك اللوّات الكثيرة التي تزيد لوية قلوبنا من الحسرة والألم يسود الحزن والندم، ويتأزّم العقل بثمن فقدان الصحة بين توقّع غياب هِمّة الإنتاج وغياب قُدرة الرعاية للآخرين وتحديدًا أفراد العائلة، وهو تفاعل سلبي بين فِكرة خسارة الحياة و خسارة نوعية الحياة، و يتراوح هذا الشعور بين اكتئاب واضح ظاهر يرى ملامحه الناس، أو اكتئاب خاص كامن يموج عميقًا داخل النفس و يعصفها..
أما الوصول إلى مرحلة “التقبّل” فهي هِبَة ثمينة، ولكن للأسف لا يصل إليها إلاّ من أنقذه عقله وتأقلمه السريع، ومن حباه الله بمصادر وشبكات الدعم العائلي والاجتماعي والطبّي الفاعلة، وتتميّز مرحلة القبول بالهدوء والعُزلة النسبية، وبالرغم من غياب الفرح فيها إلاّ أن ذلك لا يُعتبر اكتئابًا البتّة.
في السباق مع الحياة لحين قدوم الساعة وهجوم قاهر العباد وهادم الملذّات على من نُحبّ إمّا أن يتركك على مرحلة الإنكار والغضب و يُرديك مشلولًا، أو تمرّ بتلك المراحل بزمن طبيعي لحين تقبّل الحياة الجديدة بمكانٍ خالٍ ممّن نُحبّ فيها، والوقت مع أزمات الحياة المُتكرّرة وخاصة (أزمة الفقد) يصبح كالسيف إن لم تقطعه قطعك..
ولكن يحتاج الشخص الفاقد إلى قدر وفير من السكينة ليُلملم نفسه ومناعته لمقاومة الوحدة وتحمّل عقابيل الحياة ومسؤولياتها، فلا تصدّقوا الخُرافة السائدة بأن عُزلة الشخص نسبيًا في حالة الفقد هي دلالة سلبية وخطرة، والحقيقة أن المحدودية الاجتماعية هنا هي من باب الاستعدادية لمقاومة الحسرة والمرار والوجع (بعيدًا) عن جُهد التواصل وعَنَتْ التوصيات وغُصّة الشفقة الذي يظهره الآخرون وإن كان بحُسن نية؛ فهو مرهق جدًا.
مراحل الحسرة السابقة لا تنطبق فقط على حسرة الحِداد في حالة فقدان شخص غالي بالموت، فهي مراحل تحدث أيضًا في حالة ترك الحبيب أو الخطيب أو الزوج في حالة الحُبّ، وتتشابه تمامًا في حالة إصابة شخص عزيز بمرض خبيث كالسرطان وغيره..
معرفة هذه الأطوار و تدرّجها من قِبل الأهل والأصدقاء والمُحيط وعدم وصمها “بالمرضيّة” مُتطلّب رئيس لتجاوز هذه الموجات الوجدانية العاصفة وصولًا لفِكرة قبول (الفقد) سواء بالموت أو بالمرض أو بفقد الغوالي كحقيقة واقعة، وبالتالي قبول المساعدة الطبّية إن تأزّم الأمر بأسرع وقت، (وأسرع) هنا تفرق كثيرًا مع مرونة الشخص ودعم المُحيط المُذهل ومروره بجميع المراحل بهدوء، ويوشك أن يجعل من حالة (إنكار) الفقد أو الانفصال أو الموت الْقَهَّار قابلة للاندحار على مذبح العِلم لا الشعوذة والخُرافة….
أنهي مقالي المُوجع بأكثر المواضيع وجعًا لنا جميعًا بأسئلة تحمل في طيّاتها ألمًا بمقدار الوجع نفسه؛؛؛ لماذا لا نتذكّر أحباءنا ونتغنّى بهم وبمآثرهم وبذكرياتنا معهم إلاّ بعد موتهم؟؟ لماذا نُقاطعهم فترة طويلة في حياتهم ثم نبكي على فراقهم ندمًا بعد موتهم؟؟ لماذا لا نعرف مشاهير وطننا وكُتّابه ومفكريه وعُلمائه وفنّانيه وشُرفائه في حياتهم وتبدأ وسائل التواصل بإشهارهم بعد موتهم؟؟
ألا تستحقّ منّا حقيقة الموت المُطلقة التوقف والتأمّل ربما لحظات قليلة في هذه التساؤلات المشروعة خصوصًا لكثرة الموت المُفاجىء وبأعمار صغيرة؟؟ مَن مِنكم عصيّ عن الموت؟؟
تفكّروا وتأمّلوا في حياة الكدر الزائلة واتعظوا يا أولي الألباب؛ فما تخطّه أقلامكم، وما تتفوّه به ألسنتكم، وما تصنعه أيديكم هو الخلود بعينه، وهو حياة أطول من حيواتكم الدنيوية بمسافات كونية، فذلك هو (الإرث) الوحيد الذي يدوم، أما أنتم وأملاككم وأموالكم ومناصبكم حتمًا زائلون؛ فاعتنوا بأخلاقكم جيدًا أجدى لكم..
في موضوع الموت المُوجع على وجه الخصوص لا أتمنّى إطلاقًا أن يكون لي حديث آخر وبقية، فما ورد أعلاه كافٍ باعتقادي، ولكن سأذكّركم دومًا بأن هناك على هذه الأرض ما زال ما يستحق الحياة رغم كدرها، وأن الرضا بحِكم الله هو أعلى درجات السلام النفسي…. دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found