التشخيص النفسي الشهير (اضطراب ما بعد الصدمة) أو عقبى الكرب هو شكل من أشكال القلق، وتم توصيف هذا المرض عالميًا للدلالة على التفاعلات النفسية والجسمية التي تلي التعرض لمواقف صعبة جدًا ومأزومة تحيد عمّا هو مُعتاد.
مِثل تلك المواقف التي تُثير “القلق الوجودي” – وما أكثرها حاليًا – تُهدّد نوعية الحياة والوجود بذاته كذلك، بِما فيه من الحدود العقلية والجسدية والنفسية للمواطن، وتفضح ركاكة الأمان وهزالته، أضف إلى ذلك نقص المناعة من الأخطار والأضرار، وما أكثر الأخيرة أيضًا.
إن التطرّق لهذا الموضوع الآن بات أكثر إلحاحًا في هذا الوقت بالذات من أي وقت آخر؛ توقيت (إقرار الضريبة)، تلك التي أطاحت بالحكومة السابقة وأوصلت الحكومة الحالية إلى “الرابع” بعد الأحداث الراقيّة من (الهبّة الشعبية) التي شهدها الدوار الرابع ذاته.
الضريبة المشؤومة سيئة الصيت هي ذاتها التي أشعلت “فتيل الانفجار” لدى الشعب الأردني العظيم الصابر بجميع أطيافه، بعد تراكمات كثيرة جدًا وأحداث مريرة أكثر أثقلت كاهله، إلى الحدّ الذي سقط “صبر أيوب” أمام صبره من أجل الوطن وأمانه، لكن قُدرة تحمّله تلاشت أمام طوفان من الأحداث التي أتت مُتزامنة تارة ومُتلاحقة تارةً أُخرى، إلى أن انفجر ووصل إلى الرابع، وهناك في ذات المكان عقد الكثير من الآمال على مَن جاء بعد ثورته السِلمية الراقية، ليُخلّصه من الآلام الجاثمة على صدره وجيبه، ولكنّه تفاجأ اليوم أو بالأحرى (انصدم) أن ثورته الفخمة تلك لم تُجدِ نفعًا وكأنّك يا زيد ما غزيت.
أمّا الصدمة الأكثر إيلامًا والتي زادت من إصابة الوطن ومواطنيه باضطراب ما بعد الصدمة؛ “صدمة الرابع” وما أقرّه، ليس فقط ما سيتبع تلك الضريبة من رفع الأسعار الجنوني، على الرغم أن جيوبنا قد أفلست ودخولنا قد أُرهقت، ولم تعُد تحتمل الرفع أكثر من ذلك، وإنّما صدمتنا بالضربة القاضية لِما تبقّى من كرامتنا، وهي سلبنا ممّا كان يريح نفوسنا في أقل تقدير؛ وهو (البوح) والتفريغ الكلامي والكِتابي، ورغم كُلّ صبرنا على ما بلانا، إلاّ أن حكومتنا الرشيدة ونوّابنا الأكارم لم يكتفوا بذلك، وسرعان ما صدمونا أكثر وسيتحفونا قريبًا بسوط آخر على ظهورنا لقصمها أكثر من حدبتها الحالية، بقانون (الجرائم الإلكترونية) المُجحف، وكأنّهم بذلك يقولون لنا (ادفع واخرس) يا مواطن ومش شغلك..
لم نصحُ بعد من الصدمات العربية والمحلّية الكثيرة والمُتسارعة جدًا، حتى أمسينا جميعًا مُصابين “باضطراب ما بعد الصدمة” ولعلّ ما يحدث على أرض الواقع من ظواهر نفسية ومُجتمعية يشي بذلك، وربما يكون من المقبول أن نُعدّل على اسم المرض أُردنيًا فيصبح اسمه (اضطراب ما بعد الرابع).
تلك الصدمات المُتوازية التي وقعت على رؤوسنا جميعًا هي تجارب جديدة علينا من حيث شِدّتها وتوقيتها وتزامنها مع بعضها البعض، باستثناء الاعتماد على جيب المواطن فقد اعتدنا على ذلك، وفي العادة فإن شأن أي تجربة جديدة مهما كانت، فهي تُحدِث نوعًا من الارتباك وعدم التأقلم؛ فكيف يكون الأمر إذًا مع تجربة خارجة عن حدود الصبر وإمكانات المواطن العادي وواقعه الاعتيادي!!!
هل من حكيم يُجيب سؤال المواطن المشروع والمُتداول حاليًا بعد عقبى الكرب “وين الصبر ألقاه” يا حكومة ويا نوّاب؟؟ هل هناك كُربى أشدّ وأنكى من إفراغ جيب المواطن ومِعدته وصحته كذلك ؟؟!! والآن زادت عليه كوارث الطبيعة الغاضبة أمام هلهلة البُنية التحتية، فماذا تنتظرون مِنّا بعد؟؟!!
إن مقياس وجود هذا المرض لدى أيّ مِنّا يتمثّل في تراجع الأداء الاجتماعي أو الوظيفي، تزايد الإحباط واليأس والبؤس، أمّا المؤشر الأخطر حاليًا هو ارتفاع السقوف وتجاوز الخطوط الحمراء جميعها، واعتقد أن ناقوس الخطر سيدقّ أجراسه قريبًا في ظِل الأوضاع الأخيرة إن بقي الوضع كما هو عليه، ويا مغيث..
حالة الذهول التي تُصيبنا الآن جميعًا هي مُترافقة مع حالة الوجوم والتجمّد والفزع وفُقدان القُدرة على التفكير وإيجاد الحلول أيضًا، كثيرون هُم حاليًا مَن فقدوا قدرتهم على التعبير والعمل وحتى البكاء، كيف لا يُصابون بهذه الحالة إزاء ما يرونه من الفظائع التي تُرتكب يوميًا على مرآهم ومسامعهم محليًا وعربيًا؟! فلا تستنكروا عليهم هذا الوجوم، ولا تلوموهم على سلبية مشاعرهم وردود فِعلهم كذلك؛ فهُم (مطحونين)..
ضجيج هذا الموقف الأليم استبدل ساحة المعركة مع العدو إلى ساحة الذات الوطنية للأسف الشديد، لتشتعل فيها معارك أشد ضراوة وشراسة تضيق عن احتمال النفس، فتظهر تداعياتها بالأفكار والمشاعر والسلوك؛ في البوح والكتابة على حدّ سواء، والمشهد المحلّي الآني يُرينا ذلك بجلاء تام.
باتت إصاباتنا الآن دون أدنى شك (نفسيّة) بحتة، أخذت شكل العواطف والسلوكات والانطباعات المسكونة بالحسرة والخذلان وتهاوي الأمل على مذبح الكرامة..
هذا هو حالنا اليوم؛ فنحن جميعًا مُصابين باضطراب ما بعد الصدمة بعد كربى الرفعة في “الرابع”، رفعة الضرائب والأسعار، وتكميم الأفواه، وتهاوي الأمن والأمان أمام طغيان الفساد مرة وأمام ثورة الطبيعة مرات..
وهل هناك غرابة بعد كُلّ ما سبق من الإصابة المُجتمعية بالأمراض النفسية، واضطراب (ما بعد الرابع) على وجه الخصوص في ظِل ما يحدث حاليًا؟؟ لا اعتقد ذلك على الإطلاق..
والنتيجة الحتميّة لإصابة المواطنين بذلك الاضطراب أن ردّات فِعله الآن أخذت منحى خطير جدًا، بعد أن كانت تأخذ شكل (الخدر العاطفي) ووصلت سابقًا حدّ (التبلّد العاطفي) أيضًا؛ ولا عجب هنا على الرغم أنها مشاعر مُرهقة ومُرعبة في ذات الوقت، كيف لا يصل لذلك بعد كُلّ هذه العجائب العربية مِنها والمحلّية، وبعد كُلّ تلك الصدمات والرفعات وتكرارها بمأساوية تارة وبهزلية تارة أُخرى.
كُلّنا الآن في حالة من الذهول (والخَرَس) والحذر العاطفي، وهو أيضًا مُتوقّع..
هذا الوقت هو حتمًا وقت التفاجؤ والدهشة، بالرغم أنّنا لا نملك ترفها اليوم، إلى متى سنبقى في هذه الحالة؟؟ الجواب عِلمه عند الله وربما يكون عند حكومتنا الرشيدة أيضُا، أمدّها الله بالحِكمة والبصيرة وأجارنا جميعًا من القادم المجهول..
في ظِل هذا المشهد الضبابي والغلاء الجنوني وتسارع الأحداث المجوني سيكون لنا فرصة أُخرى لهذا الحديث؛ فمن المؤكد أن يكون له بقية…. دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found