ما شهدناه في الأيام الأخيرة من تذبذب في المواقف الشخصية والوطنية حول قانون “العفو”، يُعتبر من الأمثلة الصارخة على أن القوانين لم توجد إلاّ لتكون تلك “الأحبولة” المثيلة لبيت العنكبوت، فينفذ مِنها الأقوياء ولا يقع في شباكها سوى الضعفاء.
وعطفًا على حالة اللغو واللغط الذي حدث مؤخرًا حول قانون (العفو الانتقائي) يتساءل المواطنون هنا، ما الجدوى إذًا من سنّ القوانين من الأساس إن كان ذلك القانون (محلّ الجدل) سينسف كُلّ ما أقرّته سابقًا، وإن لم يكن هدفها إحقاق العدل عند الاحتكام إلى ساحتها لتأخذ بيد المظلومين وأصحاب الحقوق؟! وهل هي موجودة أصلًا لإتاحة الفُرصة لأصحاب “الصيت والنفوذ” الذين يملكون دومًا فُرصة الإفلات من شرك العنكبوت وبذات القانون ؟!! اعتقد أنّه تساؤل مشروع جدًا للمواطنين المسحوقين!! وكاسك يا وطن..
أمسى كُلّ شيء مُباح حاليًا؛ لأنّنا نعيش في (فنّ) المُمكن، ومن المعلوم أن الفنون جنون، وبعد ذلك القانون لا وجود للعدالة الاجتماعية في الواقع، فالأخيرة محض لغو لا عفو …
إنّ عدالة التشريعات والقوانين تكمُن في استيقاظ الروح التشريعية (المُغتربة) في كُلّ قضايا الوطن، أتدرون ما هي؟؟ هي “الشريعة الأخلاقية”، ولكنّ يقظتها عسيرة جدًا للأسف الشديد، ويعود السبب في ذلك العُسْر إلى العلاقة (الحميميّة) المُلتبسة والمُختبئة في ذات الوقت بين طيّات شيء مفقود حاليًا وهو (الضمير)، وهيهات..
ما أشدّ براءتنا حين نظن أن القانون “وعاء” العدل والحقّ، فلا أمل لمظلومٍ في نيل حقٍ مُغتصب ما لم تلتصق القوانين بالقانون الأخلاقي حتى تتحقّق العدالة؛ لأن القوانين هي مُجرّد أسد ميّت، وما دون ذلك يصبح التنازل عن حطام الدنيا حتى لو كان حقًا مشروعًا، أهون، من كسبٍ ندفع مُقابله كنزًا أَنْفَسْ بما لا يُقاس وهو (الوقت)، فما يضيع من العمر لا يُمكن استرجاعه لا بقانون ولا بغيره..
أمسى القانون في هذا العصر الرديء ضِمن خدعة الديموقراطية المزعومة، والدولة المدنيّة المأمولة، (حلم البسطاء)، وما هو سوى تنفيذ لرغبة صُنّاع القرار في المطبخ السياسي (الأقوى)، فهو بدلة (رجاليّة) للمتنفّذين فقط، يتم تفصيلها على قياسهم ووفقًا لِمصالحهم، (والمرأة) هنا مُستثناة تمامًا، أو حتى مُهمّشة، وليس لها حُصّة من زيارة خيّاطهم المُعتمد.
البلد الذي لا يحكم فيه القانون بشكل عادل ويُطبّق على الجميع دون استثناء، ويُسمح للقلّة فيه أن تكون فوق القانون، سيمضي فيه الناس المظلومين والفقراء مِنهم على وجه الخصوص، إلى التوقيف المُجحف، أو إلى السجون بمحض الصدفة، إمّا كأكباش الفداء، أو ربما لافتقارهم لفيتامين (واو) المُغذّي لحُريّتهم. وهنا لا بدّ من ضرورة التنويه؛ بأنّه لا يُمكن أن يكون هناك “مُستقبل” في أيّ بلد يتمدّد فيه الظلم والتجنّي واغتيال الشخصية والمحسوبية مع وجود الفقر كما يتمدّد الثعبان في الرمل.
نُريد دولة قانون لا دولة (أشخاص)، ولا نُريد قوانين تُصاغ على أمزجتهم دون الاكتراث لِمصالح الوطن ومواطنيه، كما أن كثرة القوانين يزيد عدد اللصوص والفاسدين، أمّا وجود تلك القوانين التي تُلجّم الأفواه وتُحطّم الأقلام فإنّها تُهدّم نفسها بنفسها. ومن المفروض أن يكون للقانون سُلطة على البشر لا أن يكون للبشر سُلطة على القانون؛ فالعكس هنا مُرعب ومُدمّر في آنٍ واحد..
وحيث ينتهي القانون يبدأ الطغيان، وبالمُقابل، يكون الشعب قويًا عندما تكون للقوانين قوة، فمَن خرق القانون اليوم لمنفعتك خرقه غدًا لِخراب بيتك.. الرحمة والضمير الحيّ هُما جوهر القانون، ولا يستخدم القانون بقسوة إلاّ للطغاة..
نعيش الآن في زمن غدا العدو فيه صديقًا ومُعلّمًا للديمقراطية، والاستسلام أمسى وطنية، أمّا الفساد والخيانة أضحى ذكاءً وانتصارًا.. دستور منك يا زمن..
أختِم بالدّعاء إلى الله : “اللهم إنّك عفوٌّ كريم تُحبّ العفو، فاعفو عنّا وارحمنا”، لعلّ طلب العفو الإلهي لهو أكثر أمنًا وأمانًا من المطالبة بقانون العفو الانتقائي اللاإنساني. ويا مغيث..
بعد تفعيل هذا القانون، وما سينجم عنه من اختلاط الصالح بالطالح بين أبناء شعبنا العظيم الصابر، عندئذٍ يأتي دورنا كمُختصّين، دومًا بعد الكارثة وليس قبلها، فهكذا تعوّدنا، نُعالج النتائج والأضرار، ولا يأخذوا منّا الأسباب للوقاية والتأهيل قبل العويل، وعلى رأي الشاعر “عمرو الزبيدي”: “لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًا، ولكن لا حياةَ لِمَن تُنادي، ولو نارٌ نَفَخْتَ بها أضاءت، ولكن أنتَ تنفخُ في الرمادِ”..
وحينئذٍ سيكون لنا من هذا الحديث بقية …. دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found