يأتي الليل ويعقبه النهار، تلك سنّة الكون، وكلما تحمى عين الشمس تبدأ الحياة بيوم جديد، ولكن عندما يسود الظلام في نفوسكم لا تنتظروا شروق الشمس؛ وإنما أشعلوا شمسكم الداخلية بأيديكم، لتنير عتمة القلوب المثقلة بالهموم. وإن غنّت دلوعة الشاشة العربية “شادية”، (قولوا لعين الشمس ما تحماشي)، حتى لا يغادر حبيبها في الصباح الباكر بعد شروق الشمس، وجب علينا القول اليوم وبصوتٍ عالٍ: احمي يا عين الشمس وأسعدينا من الداخل، حتى تشرق أرواحنا برذاذ نورك، وشذى نسيمك الدافىء، حتى نستمتع في الحياة بألوان قوس قزح، رغم مرارها..
ليست السعادة بمقدار ما نملك، بل بمقدار ما نستمتع بما نملك، وبما نقوم به، وما نصبو للوصول إليه، ف السعادة تكمن في طريقنا نحو الهدف، وترافقنا بفرحة تفوق سعادة الوصول إلى الهدف نفسه. وأهم ما يُشعر القلب بِ السعادة “الحقيقية” هو خلوّها من (وخز الضمير)، وامتلاك الرغبة لإدخالها في قلوب الآخرين والسعي لذلك..
تختلف مصادر السعادة من شخص لآخر، فقد يكون المال أو المنصب مصدر سعادة أحدهم، وهناك من يسعد بالأكل مثلًا، وربما تكون القراءة، ولبعضهم الحبّ، وآخرون يسعدون بالعطاء غير المشروط وإسعاد غيرهم دون انتظار المقابل، المهم هنا معرفة مصادر السعادة الخاصة والاستمتاع بها لرفع هرمون السعادة (السيراتونين) في الدماغ بشكل طبيعي.
الاعتقاد بأن جميع الناس سعداء هو محض خرافة، فمَن يرى السعداء قد يشعر في “الدونية” أمامهم، وقد يحسدهم كذلك؛ لأنهم في اعتقاده أفضل منه، كيف لا وهم يحيون حياة سعيدة ليست كحياته البائسة، على الرغم أن مَن يعرف كيف يعيش وكيف يستمتع بما لديه، بإمكانه إسعاد نفسه من أبسط الأشياء، فما يهم الإنسان هنا تعلّم فنون العيش وفنّ الاستمتاع..
من الضروري تقبّل حقيقة ساطعة كالشمس بأن الطبيعة البشرية مجبولة على الخير والشرّ، وتقبّل أيضًا أن الحياة هكذا كانت وهكذا ستستمرّ، وكل شيء عند الله بمقدار، هذه القناعة تجعل الإنسان أكثر نضجًا، وأكثر إيمانًا وتقبلًا لما أصابه، وتحويل المحنة إلى منحة، ومَن يصل لهذه “المرحلة الملكية” للنفس البشرية سينعم بِ السعادة وسيشعر بالراحة؛ لأنه ببساطة شديدة يتقبّل شعوره بالسوء تمامًا كتقبّله الشعور بِ السعادة.
الزيادة الصاروخية للأمراض النفسية، والعصابية منها على وجه الخصوص كالقلق والاكتئاب، هي نتيجة حتمية لغياب “مهارة الاستمتاع” بكل شيء مهما كان بسيطًا، وشحّ القدرة على تحويل الشعور بِ السعادة إلى سلوكات ممتعة، أما علاج ذلك فلا يكون إلاّ من خلال الوصول إلى حالة (الرضا)، والتركيز على كل ما هو “موجود” لا التركيز على ذلك “المفقود”..
أزمة الإنسان المعاصر في هذا الزمن الحديث ليست “أزمة مادية” بقدر ما هي “أزمة وجودية” وروحية، فحوله من الكثرة في التطور التكنولوجي ووسائل الراحة ما أصابه بِ (التبلّد العاطفي)، ورغم تلك الكثرة، إلاّ أنها أفقدته القدرة على (تقديرها) والاستمتاع بها، وهذا ما يمزّقه من الداخل ويشتته من الخارج..
من التصورات الخاطئة التي تعتَوِرُ تفكير كثير من الناس، هو لهاثهم نحو تحقيق مزيدٍ من التجارب الإيجابية والناجحة منها تحديدًا، غافلين أن هذا الأمر (سلبيّ) بحدّ ذاته، وأن النجاح يولد من الفشل، والحكمة تولد من رحم المعاناة، وأن كثرة التجارب السلبية هي تجربة إيجابية بعينها، ويقود عدم الوعي بذلك إلى ما يرهق العقل ويُتعب النفس ويُمزّق الروح عند أيّة سقطة أو أيّ مطبّ مهما كان حجمه، فيحرم هذا الفكر الخاطىء الإنسان من نعمة الشعور بِ السعادة ورسم البسمة على محياه وملامحه..
هل تعلمون أن اللهاث في السعي وراء ما يفتقده المرء في حياته، ما هو سوى تأكيد على فقره به؟!! وليست هذه الطريقة التي ستحقق له الإشباع والرضا أبدًا؛ وإنما ما يحقّق ذلك هو الوصول إلى مرحلة (اللااهتمام) و(اللامبالاة) اتجاه ما يفتقر ، وهذا ما سيوصله نحو هدفه؛ لأنه سيتعلم كيف يكون سعيدًا بما يملك. فالرجل الذي يسعى نحو الثراء على سبيل المثال، سيعزّز شعور الفقر داخله حتى لو جمع مال الدنيا كلها، والمرأة التي تسعى نحو النجاح ستثبّت في داخلها شعور الفشل حتى لو سبقتها إنجازاتها، أتدرون لماذا؟! لأن كل منهما مُصاب بِ (المرض الصامت)، وهو ذلك الداء اللعين الذي نسميه “السرطان النفسي”؛ لأنه يفتك خلايا الدماغ والأعصاب تمامًا كما يفتك السرطان بخلايا الجسد، هذا المرض الذي يعمي الإنسان عن إبصار ما يملكه حقًا، ويبصر فقط ما لا يملكه، فلا هو حافظ على ما لديه ولا هو وصل لما ينقصه، فلا يسعد بوجود أيّ منهما، وبالتالي لن ينعم بحالة (الرضا)، والأخيرة هي أساس التوازن والاستقرار النفسي للإنسان، والتي بدورها تُعتبر أهم أسس السعادة .
المُصاب بِ “السرطان النفسي” تتوقف قدرته على التبصّر، بسبب تركيز تفكيره على كل ما هو سلبي في حياته، وعلى ما لا يملكه، وما بين عدم الإبصار وقلّة التبصّر تضيع (البصيرة)، ويا مغيث..
لن تعيشوا سعداء أبدًا إن واصلتم البحث عن مكونات السعادة ، فمصادر السعادة بين أيديكم وحولكم دومًا، انتبهوا إليها فقط، ثم حددوها، وعرّفوها في أدمغتكم بشكل صحيح، وما يصنع السعادة لفلان ليس بالضرورة أن يصنعها بذات المستوى لعلاّن، فكل شخص له مصادر السعادة خاصته التي تختلف عن الآخر، ويجب احترامها جميعها والمساعدة في تحقيقها إن أمكن..
المحاولات البائسة في (تجنّب المعاناة) هي معاناة بحدّ ذاتها، وكذلك الأمر عند تجنّب الصراع، فيولد صراعًا جديدًا، أما إنكار الفشل فهو فشلٌ بدوره. فلا يمكن تحقيق النجاح من خلال الهروب من المشاكل والإخفاقات، أو تجنبّها، ولا حتى قمعها، وإنما يحصل النجاح الذي يمنح القيمة للحياة، وتحصل متعة العيش معه، وأنت في طريقك نحوه، من خلال التغلّب على مصاعب التجارب السلبية والتعلّم منها وعدم تكرارها..
التحولات الكبرى في حياة الإنسان، العائلية والمهنية على حدّ سواء، كاختيار موضوع الدراسة، وانحراف التخصص، وقرار التخلص من “العلاقات المسمّمة والنفايات البشرية” في حياته، هي لحظات من “اللاّاهتمام” في كل ما هو مُرهق، وتكثيف الاهتمام على مواجهة أكثر تحديات الحياة صعوبة، والتركيز على ما ينتج السعادة فقط، والمحافظة على بقاء القدرة على (الفعل)، وأعني بالفعل هنا فعل السعادة وافتعالها حتى تمسي نمطًا..
وعلى رأي محمود درويش “علموك أن تحذر الفرح لأن خيانته قاسية، وإذا جاءك الفرح مرة أخرى، فلا تتذكّر خيانته السابقة، ادخل الفرح وانفجر”..
ونقول هنا توكيدًا على كلماته: حوّلوا المِحَن إلى مِِنح، واستمتعوا بما لديكم، فالحياة مهما طالت تبقى قصيرة جدًا وجدًا..
ولا تموتوا وأنتم على قيد الحياة، ولا تسمحوا للحياة تُنسيكم أن تعيشوا، ولا تنتظروا السعادة إن تمسّكتم بالحزن، ولا تنتظروا الشفقة من أحد ولا حتى الرحمة وارحموا أنفسكم أولًا، لا تركنوا على مَن يُحيي فيكم الأمل وأنتم متمسكون بالبؤس، لا تجمّدوا عقولكم وتكتّفوا أيديكم في انتظار أحد أو معجزة تحلّ مشاكلكم.
وعندما تمرّون في أزمة لا تحزنوا على فداحتها ومرارها، بل افرحوا، لأنها ساعدتكم على كشف معادن مَن حولكم، سواء مَن تربطكم فيهم روابط الدم أو النسب أو الحب أو حتى الصدفة..
هي (الأزمات) فقط مَن بمقدورها مساعدتكم على إعادة ترتيب أفكاركم وأولوياتكم، وترتيب الناس من حولكم؛ فمنهم مَن يستحق “الثناء”، وهناك مَن لا يستحق “البقاء”، ومنها ستنعمون بِ السعادة ..
وتذكروا جيدًا أن السعادة (قرار)، وتبدأ من الداخل قبل الاستمتاع بمصادرها في الخارج، ومصدر السعادة الأول هو أنتَِ فقط لا غير..
مرة أخرى، لا تموتوا وأنتم ما زلتم على قيد الحياة، وتعلّموا أن تعيشوا، ولا تطفئوا شمسكم الداخلية، فالشمس تشرق كل يوم فأشرقوا شموسكم في صبيحة كل يوم جديد..
الابتسامة صدقة، فتبسّموا، و السعادة عمود الحياة الأول رغم كل مآسيها وثقل همومها، وبالرغم من ذلك سيبقى لنا دومًا في السعادة حديثٌ آخر وبقية… دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found