استبق الشاعر والكاتب الإنجليزي “وليم شكسبير” بأدبه الرائع الموسوم بِ (مأساة عُطيل)، تصنيفات الطب النفسي بفترة لا بأس بها، وذلك عندما قدّم من خلال الأدب والفنّ تحليلًا عميقًا لآلية الإيقاع بقائد عظيم أسود البشرة اسمه (عُطيل)، ضحية الغيرة على زوجته البيضاء المخلصة واسمها (دِزدمونة)، من خلال الشرّ الذي مارسه مساعده (إياغو)، حيث صوّر شكسبير “لذّة الشرّ” في الطبيعة البشرية في شخصيته، فاستغل “إياغو” نقاط الضعف لدى سيده “الشرقي” الغريب عن المجتمع الذي عاش فيه، فكان عُطيل ينتمي إلى ثقافة شرقية تختلف اختلافًا كليًا في معالجتها لمواضيع الحبّ والغيرة والخيانة والشرف عن نظيرتها الغربية.
وما قدّمه شكسبير في ذلك العمل العظيم بات يُعرف الآن بالتشخيص النفسي بِ “اضطراب الغيرة المرضية” أو وهم الخيانة وأيضًا “متلازمة عُطيل”..
فقام بطل أهم أعمال شكسبير الفارس المقدام (عُطيل) بقتل زوجته وحبيبته (دِزديمونة) بنهاية درامية غير متوقعة بعد كل الحبّ والإخلاص الذي جمعهما، إلاّ أنه فعلها للأسف، وعلى الرغم أن طبيعته وطبيعة الضحية (محبوبته) وجمال علاقتهما لا تؤشّر لتلك القفلة إلاّ أنها صارت. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: كم عُطيل وكم عُطيلة تملأ فضاء المجتمع العربي منذ ذلك التاريخ إلى الآن؟!
ولمن لا يعرف من هو عُطيل في أدب شكسبير وأروع شخصياته، هو رجل مبدع وموهوب، وكان قد تبوّأ مركزًا عسكريًا في بلاده في ذات الوقت مرموقًا جدًا، وقد أحبّ فتاة جميلة من أصل نبيل وتزوجها رغم أنف والدها؛ لأن الأخير كان يفضّل الأصل والفصل على الإنجازات، ولأن حبهما كان مدعى للغيرة ممن حولهما، نجح العابثون آنذاك في دسّ فكرة خيانتها له، ورغم مقاومته للفكرة، وإيمانه في إخلاصها، إلاّ أن ذكورته جنبًا إلى جنب مع عبث الحاقدين وخططهم التي نجحت بالصدفة، تغلّبوا على قوّة حبه لها وثقته فيها، فتأجّجت غيرته وقتلها بدمٍ بارد انتقامًا لذكورته المشروخة ممن حوله..
ونحن وإن أسقطنا ما بدر من عُطيل (الذكر) على جميع ذكور الماضي والحاضر، لن يستنكر المجتمع الذكوري ما أقدم على فعله؛ لأن ذكورة الرجل لا تكتمل إلاّ إذا قام بإسكات “الأفواه” التي تشير بأصابع الاتهام إلى سلوك زوجته أو حبيبته، حتى لو كانت مظلومة، ويُقدم على قتلها مُجبرًا حتى لو كان غير راغبًا ولا مقتنعًا، فقتل الموصومة بالعار التي تهين شرف العائلة والمجتمع كلّه، لا تستحقّ سوى القتل انتقامًا للذكورة والشرف والسمعة، خضوعًا لرغبة الجموع والقطيع، فقتل المرأة هو فقط ما يعيد الشرف المسلوب لهم، ويحظى القاتل أيضًا بزقفة فخر محترمة من قبل غير المحترمين، لا بل يحميه القانون كذلك بسبب ارتكابه جريمة بداعي الشرف!!
قتل المرأة في العصر الحديث لا يكون دائمًا بتصفيتها جسديًا، ربما ذلك يُنهي حياتها مرة واحدة وللأبد ويخلصها من عذاب يومي أكثر قساوة، أما قتلها يوميًا هو العقاب الأشرس لها عندما يتم التضييق عليها ومنعها من الخروج وملاحقتها وتعنيفها ووضعها تحت الرقابة والوصاية من زوجها أو من ذكور عائلتها، سواء كانت موصومة ظلمًا أو حتى إن كان زوجها مريض باضطراب الغيرة المرضية.
أما المرأة فربما لا تقتل زوجها بداعي الشرف؛ وإنما بداعي شرخ الكرامة وإهانة أنوثتها، وقد تنتقم بطرق أسوأ بداعي الحبّ المأزوم لا بداعي الشرف المزعوم..
عُطيل ومثله كثيرون في العصر الحاضر لم يُخضِع السمّ الذي تم دسّه في أذنيه للمنطق، فلا منطق أمام ذكورته، ولم يجمع الدلائل الكافية لإثبات إدانة زوجته بتهمة الخيانة “المدبّرة” لها، وبعد أن كان قلبه مليئًا بحبّها حلّت مشاعر الغيرة محلّ الحبّ والرحمة..
مشاعر الغيرة بين الجنسين هي إنسانية وطبيعية ومقبولة إلى حدّ معين، ويختلف تعريفها عندما تظهر لدى الرجل عنه عند ظهورها لدى المرأة، فاستشعار الإنسان لتلك المشاعر تنجم عن (حقوق حصرية) مطلوبة من الشريك، وقد تشمل الملكية والاستئثار للآخر، وعند المساس بتلك الحقوق بشكل مباشر أو غير مباشر، يشعر الطرف المتأذّي بمشاعر الغيرة، ويلعب “الإرث الثقافي” بكل ما يرتبط من سمات للمرأة وللرجل دور بارز جدًا في تحديد الحدّ الفاصل بين الغيرة الطبيعية (المقبولة) وبين الغيرة المرضية (المعلولة)، وعندما تتناسب مشاعر الغيرة مع حجم ما يُثيرها من قبل المرأة أو الرجل لا يتم استنكارها إطلاقًا، هذا في حال كانت الدلائل واضحة للعيان، ولا تعتمد على الإحساس أو الشائعة (وهيك سمعت) ووشاية الخبثاء، والأهم أن لا تخضع للتكهّن والتأويل، وبخلاف ذلك تخضع حكمًا للتوصيف المرضي الميّال للشكّ (البارانويا) دون دلائل واقعية..
وقد تكون الغيرة نابعة من حبّ التسلّط من قبل الرجل، أو عدم الاكتفاء العاطفي وغياب الشعور بالأمان من قبل المرأة، وفي كلتا الحالتين تشي بانعدام الثقة بالنفس لأيّ سبب كان، وتكون فكرة الغيرة وما يصاحبها من سلوك أشبه بخيوط العنكبوت الواهية التي تقود الطرفين إلى القفز للاستنتاج بوهم الخيانة دون دليل ملموس..
وفي حال تعدّت الغيرة حدّها المقبول، يمسي أي سلوك يقوم به الطرف الآخر مدعاة للشكّ، ومصحوبًا بدرجة عالية من عواطف مركّبة من التوتّر والغضب والخوف والحزن، وهنا تبدأ المأساة عندما يلجأ الطرف المُصاب بالغيرة المرضية بالبحث والتنقيب عن أي شيء يُثبت صدق الفكرة والتنبؤات يستوحيها من الواقع، حتى لو كان سلوك الآخر في تلك اللحظة عفويًا، والمأساة الأخرى أن الطرف الذي يقوم بهذا السلوك لا يكون هدفه إثبات البراءة من اتهام الشريك بالخيانة؛ وإنما لتأكيد فكرة الخيانة ذاتها، فلا خيار آخر يسعى لإثباته المصاب باضطراب الغيرة المرضية والشكّ المرضي، وهذا وضع مرهق جدًا يدمّر العلاقة في أحسن الأحوال ويقود للقتل في أسوأها..
ويتجسّد السلوك (التحقّقي) الذي يمارسه الطرف المصاب بالتجسّس والملاحقة والعبث بالأغراض الشخصية وغير ذلك من سلوكات شبيهة، بالإضافة إلى التحقيق المستمرّ في كافة الأحداث والمواقف والشخوص وبالتفاصيل المملّة، أضف إلى ذلك المتابعة بالخطوة والأسئلة اللاّمتناهية.
وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الخلوية وأدوات التكنولوجيا الحديثة والتطبيقات الذكية اليوم المصابين بهذه الاضطرابات، حيث سهّلت لهم فكرة المراقبة والتجسّس، الأمر الذي خرّب بيوت كثيرة..
عندما تصل مشاعر الغيرة الحدّ الذي لا يُطاق يجب طلب المساعدة من المختصين فورًا؛ لأنها تكون في حالات كثيرة مترافقة مع أمراض نفسية أخرى منها الفصام أو الاكتئاب وربما القلق، وقد يأتي هذا المرض أحيانًا بشكل منفرد دون أعراض نفسية، فيمارس مريض الغيرة حياته ووظائفه بشكل طبيعي، أما سلوكه اللاّطبيعي يكون على الشريك فقط.
والعلاج الدوائي والسلوكي ضروري جدًا في هذه الحالات، حتى نمنع تكرار نماذج حديثة مكرّرة من (عُطيل و ديزديمونا) بنكهات عصرية..
وأخيرًا النصيحة التي نقدمها هنا للمرأة والرجل بمعزل عن وجود اضطراب نفسي، ننصحك أيتها المرأة إن شعرتِ بالغيرة حدّ الشكّ فبحثك عن دليل يصلح إن أردتِ إنهاء العلاقة فقط، أما في حال لا تريدين خراب بيتك وتفكيك أسرتك فهناك طرق أخرى أكثر رقيًا لعلاج الخيانة – إن ثبتت – تحفظ كرامتك وتضمن استقرار عائلتك، بخلاف ذلك فكل نصيحة تُقدّم لكِ من غير المختصين فهي خراب عشّك ليس أكثر، ومن الضروري جدًا تقبّل حقيقة مؤلمة بأن الرجل خائن بطبعه؛ لأنه ببساطة شديدة تعريف الخيانة في دماغ الرجل مختلف تمامًا عن تعريفها في دماغ المرأة، فما تعتبره المرأة خيانة قد لا يكون كذلك بالنسبة له، وهنا تبدأ الخلافات ويستمرّ مسلسل المشاكل إلى أن تقع الكارثة، فلا يوجد رجل لا يخون مع بعض الاستثناءات النادرة جدًا.
أما نصيحتنا لك أيها الرجل، نذكرك هنا بمثل شعبي جميل (أن كلٌ يرى الناس بعين طبعه)، وهذا ما يحدث معك عند مبالغتك في غيرتك على زوجتك حدّ الشكّ الخانق والتسلّط المارق، وإن كنتَ كذلك ننصحك بالتوجه لأقرب طبيب نفسي أو مختصّ فورًا طلبًا للعلاج، عدا ذلك ستهدم بيتك بيديك، وإن كنتَ تخون فعلا بما يُهين كرامة أنثاك ويجرح أنوثتها تذكر نظام (الكارما)، فما تفعله سيُفعل بك يومًا ما، وسيُسقى كلّ ساقٍ بما سقى ولو بعد حين، ركّز في شريكتك واستثمر بها واعمل على إصلاح ما بينكما أجدى لك وأدوم، وإن لم تصلُح فقد شرع الله أبغض الحلال عنده وفتح باب الطلاق، ولم يفتح باب الخيانة ولا الإهانة..
ليس هناك أجمل من كلام الله سبحانه وتعالى أنهي به هذا المقال عندما قال في كتابه الكريم “فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان”، وقال أيضًا “لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم”..
واللبيب من الإشارة لا بالعبارة، ومن التلميح لا بالتصريح، يفهمُ..
دائمًا وأبدًا في العلاقة بين الجنسين سينبض قلمنا، ولن يكتفِ بالوصف بقدر ما نسعى نحو الحلول، وسيبقى لنا في هذا المجال كمشات كلام وشوية حكي وبقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found