نُقِشَ في عقولنا سابقًا أنّ الضدّ يُظهر (حُسنه) الضدّ، أما واقع الحال الآن أثبت لنا بالدليل القاطع أن الضدّ يُظهر (سوءه) الضدٌ؛ فالضدّ هو الشبيه الزائف لا المخالف. لذلك بتنا نرى فاسدون “ضدّ” الفساد، وأغبياء “ضدّ” الجهل، ومنحرفون “ضدّ” الرذيلة، وحمقى “ضدّ” الهبل، مشاهد بشعة متكررة بانتظام مقيت..
العمليات الذهنية هي من يجعلنا ندرك الواقع المُعاش إدراكًا كاملًا بمعطياته وحقائقه و(أضداده)، وندرك كل ما يربط الإنسان مع محيطه بتفاعلاته الاجتماعية المختلفة، ويكمن الخطر الرئيس في إدراك الأشياء التي تكون في الحقيقة (متضادة) ولكنها في الواقع تبدو وكأنها متشابهة، فلا يوجد مشكلة في التضادّ الواضح إطلاقًا، وإنما المشكلة الحقيقية تظهر في الأشياء التي لا يتّضح التضاد فيها. فمثلًا: الضدّ الحقيقي للحبّ ليس الكراهية كما نعرف، وإنما (الحبّ الزائف) هو الضدً، الذي يظهر بأنه حبّ وهو في الحقيقة عكس ذلك.
والضدّ الحقيقي للتعاطف ليس الغضب، وإنما (التعاطف المصطنع)، الذي لا ينبع من الداخل بصدق فلا يشعر به أحد.
والضدّ الحقيقي للابتسامة ليس الدموع، وإنما هي (الابتسامات المزيفة)، تلك الباردة، المرسومة، والتي لا تتجاوز الشفاه، ولا تخرج من القلب، والخالية من أيّ شعور، لذلك هي خادعة.
وكذلك الأمر بالنسبة للوجود الحقيقي والوجود الزائف، فلم يعد “إنسان العصر الحديث” سوى نسخة متكررة متحركة بين بني جنسه، فينطق بلسان حال الآخرين، ففقد كينونته وخصوصيته وجوهره.
فالوجود الحقيقي للإنسان هو شعوره العميق بوجوده في هذا العالم، ويقينه بأنّه جزء فاعل في هذا الكون، وأنّ له صفات وخصائص تميّزه عن غيره من الكائنات، وله قراراته المستقلة، وآرائه الخاصة، وجوهره الفريد الذي يخصّه هو بالذات دونًا عمن يحيطون به.
أما (الوجود الزائف)، هو ما نشهده ونعيشه حاليًا، ويتمثّل بوجود الإنسان سائرًا في درب دون “ذات خاصة” متفرّدة، وتائهًا دون التفاته إلى جوهره وذاته الشخصية، فتتلاشى سماته الخاصة وتذوب وفق ما يحدده الجمهور (القطيع) دون هوية منفردة، فيشعر بالاغتراب عن مجتمعه وفي “الغربة” عن ذاته؛ لأنها أمست ذائبة ومنخرطة في جموع القطيع، فصار يفكر مثلهم، ويبدو مثلهم، ولا يفرّق بين شخص وآخر أي سمة مميزة، لذلك صار الناس نُسخًا مكررة عن بعضهم البعض منتشرون بِ (أقنعتهم) في كل مكان، وكأنهم أشباحًا متحركة في مدينة للموتى وهم ما زالوا على قيد الحياة..
وهنا يصبح (القلق الوجودي) للناس ضرورة ملحّة وقلق إيجابي بذات الوقت؛ لأنه قلق من العدم واللاّوجود وهم ما زالوا أحياء، ونحن نشجع وجود هذا النوع من القلق للإنسان في هذا الوقت العصيب، ذلك التائه بين أمواج متلاطمة وهو لا يُتقن العوم؛ لأنه – أي القلق الإيجابي – أهم حافز يدفع الإنسان للبحث عن الحقيقة والتساؤل والفضول، ومن خلال القلق الوجودي فقط يستطيع الإنسان أن يمضي من وجوده “الزائف” نحو وجوده “الحقيقي”، ويعود فاعلًا ومنفعلًا في البناء الاجتماعي، وخوفه من (اللاّحياة) يُنير له طريقه لإدراك وجوده، وليس خوفه من الموت، لأن الأخير هو الحقيقة المطلقة الوحيدة في الوجود، وحين يحين موعده لن يتبقّى للإنسان سوى نفسه، وما خطّه قلمه، وما صنعته يداه، وكل ما أنجزه في رحلته الدنيوية القصيرة جدًا، فهذا هو الوجود الحقيقي، والذي يتحول إلى الخلود بعد انتهاء رحلة “الحياة” لا رحلة (العيش).
ولكنّ إنسان العصر الحديث يهرب من القلق الإيجابي، ويهرب من التساؤلات، ويهرب من كل ما يجعله يفكر ويرهق عقله ونفسه، ويهرب من حمل كل الفؤوس التي بإمكانها تكسير القوالب الجامدة التي وقع أسيرًا بين قضبانها بلا حولٍ له ولا قوة..
تذكروا دائمًا أن “الزائف” هو ما يجب أن نعتبره ((الضدّ)) أمام الحقيقي، وليس المخالف له، فالضدّ الفعلي يكون ما بين الحقيقي وما هو غير حقيقي، وإنه من دواعي “الحكمة” اليوم أن نخشى على مصير الأجيال القادمة من الزيف في كل شيء، ولا سيما (الوعي الزائف)، فالوعي ليس ضد الجهل والتخلف، وإنما الوعي الزائف هو الضدّ الحقيقي للوعي بذاته وليس اللاّوعي، ومكمن الخطر يتجلّى في كل ما هو زائف وليس بما هو مخالف..
ولا مناص للإنسان إلاّ أن يتعرّى أمام نفسه في أقلّ تقدير، وأن يعلم جيدًا بأنّ كل ما هو زائف في كينونته لا يعمل سوى على تعزيز زيفه وزيف شخصيته، ويجمّل القناع الذي يلبسه، وسيجعل منه (حارسًا) بشكل مستمر؛ لأن زلّة صغيرة هنا أو هناك ستُثبت بأن ما يصدر منه وعنه غير حقيقي، وبذلك سيدمّر كل الزيف الذي حافظ عليه منذ زمن طويل، وبالتالي يدمّر شخصيته؛ لأنه ببساطة شديدة مضطرّ أن يبقى جديًا، والجديّة لها مبرراتها؛ لأنها تساعد في الحفاظ على (التواضع) غير الموجود أساسًا لديه، فمن العسير جدًا المحافظة على شيء غير موجود في الأصل.
ومن الضروري العلم بأن التواضع عبارة عن (أنا مخفّفة)، كما هو الغرور (أنا مضخّمة)، والمبالغة في إظهار التواضع هو نوع من أنواع الغرور، وهنا لا يكون الغرور ضدّ التواضع، وإنما التواضع الزائف أو الغرور المقنّع بقناع التواضع هو الضدّ الفعلي، ويمكن قياس ذلك على كافة السلوكات الإنسانية التي كنا نعتبرها أضداد، ونعود ونؤكد على ما أوردناه هنا سابقًا أن الضدّ يكون من نفس نوع السلوك، ولكن بشكل زائف لا مخالف.
وأيّ شيء يتطلّب من الإنسان الحفاظ عليه مضطّرًا، يُبقيه ليس فقط جدًيًا وإنما حزينًا وخائفًا في ذات الوقت، كيف لا يشعر بتلك المشاعر المرهقة وهو مرعوب أن يتمّ القبض عليه متلبّسًا بتهمة (الزيف)، والإنسان المزيّف والذي يحمل شيئًا زائفًا في داخله يهرب دومًا من الناس، ولا يسمح لأحد الاقتراب منه بعمق؛ لأن الصميمية والعمق تفتح الباب للآخر لرؤيته على حقيقته، ورؤية ما لا يسمح برؤيته غير نفسه، وأي شخص آخر مهما كان قربه يُعتبر من (الغرباء) بالنسبة لذلك الزائف، لذلك يكون دائم الهروب من الناس، ويترك دومًا مسافة أمان أكثر من اللاّزم بينه وبينهم، وغالبًا ما تكون علاقاته سطحية جدًا لا عميقة إطلاقًا، ولا يحبّ التواصل دائمًا؛ لأنّ العلاقات العميقة والحقيقية تعني له كشف ذاته وأناه، وهذا ما لا يريد، فلن يقبل أن يتعرّى ويكون مكشوفًا للآخرين الغرباء بنظره، حتى أقرب الناس إليه، وهو يشعر بالتعاسة أغلب أوقاته، وعلاقاته طيّارة وعابرة فلا تدوم، وهذا ربما يفسّر لكم الاختفاء المفاجىء في العلاقات لبعض الأشخاص من الجنسين..
وجميع أقنعة الضدّ الزائف تخدم من يقتاتون على (دوغمائية القطيع) وجهله، وهؤلاء هم ذاتهم من يبلغون المناصب، ويدرّسون في المدارس والجامعات، وأولي الأمر ومن يفتون في الأمر، وهم من نستمرّ في إنتاجهم وإعادة إنتاجهم يومًا بعد آخر، وفي مواسم الانتخابات، فالفاسد ليس الضدّ للشريف، وإنما الفاسد الذي يرتدي قناع الشرف والأخلاق هو الضدّ للشرف وللشرفاء..
وعليه، خفّفوا من الزيف والأقنعة الزائفة، فلا يوجد أجمل من الحقيقة وهي الأدوم أيضًا؛ لأن الأقنعة لا تدوم وتسقط سريعًا،، والسرقة الوحيدة المقبولة هي سرقة الحياة من اللّاحياة الزائفة..
وأخيرًا وليس آخرًا أختم بمقولة للروائي السوري (حنّا مينه) عندما قال “القتال أيضًا حضارة، حين يكون (ضدّ) الذين يريدون هدم الحضارة”..
دائمًا وأبدًا سيبقى لهذا القلم من الحديث قصة أخرى وبقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found