رغم أنّ كل ما يحيط بنا وكل ما حولنا يقود حتمًا نحو (الكآبة) التي تلغي أيّ رغبة في الكتابة، إلاّ أنّ قلمنا يأبى النأي بنفسه بعيدًا عما يحدث، ويصمّم أن يبقى عصيًا على الكآبة والاستمرار في الكتابة حتى في زمنٍ وفي عالمٍ كل ما فيه يدعو للكآبة، فذلك أضعف الإيمان. وكلّ العالم يرقص و”الطبّال” مفلوز؛ لأنّ الجميع مشغول في “داء القورونا” وناسيين (صفقة القورونا)،، وكاسك يا وطن..
جميع الأحداث الحالية، محليًا وعربيًا وعالميًا، يُثير في نفس المواطن وعقله، بما لا يدعُ مجالًا للشكّ، ذلك “القلق الوجودي”، ناهيك عن جميع أنواع القلق الأخرى والمعروفة أسبابها بالطبع، تلك التي تهدّد “نوعية الحياة” والوجود بذاته كذلك، بما فيه من الحدود العقلية والجسدية والنفسية للمواطن، والتي تفضح ركاكة منظومة (الأمن والأمان) وهزالتها، أمّا الأخطر على الإطلاق هو فيروس (نقص المناعة) من الأخطار والأضرار، وما أكثرها للأسف الشديد، أكانت تلك الصحية أو السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية أو الاجتماعية، وربما كلها مجتمعة، فهل هناك غرابة إذًا من تفشّي “قلق الوجود” للوطن والمواطنين حاليًا؟!، وهل يوجد سبب أوضح وأهم من ذلك ليفسّر زيادة أعداد المصابين في المرض النفسي والعقلي في الآونة الأخيرة؟! فكلّ ما يحدث لا يقود إلاّ للجنون، وهنيئًا لمن حافظ على صحته العقلية والنفسية حتى الآن في ظلّ هذا الهوان والذلّ والإرهاب النفسي..
إنّ كلّ ما شظّى المنطقة بأكملها اليوم، وما آل إليه حالها وأحوال أهلها، هو النتيجة الحتمية لتورّط العرب في وحل (الخريطة) الجديدة، ومن خلال الأخيرة تمّ إعادة رسم المنطقة العربية حسب تصورات (الآخر) ومصالحه، على حساب العرب ومصالحهم، وتمّ تفصيل ثوب العروبة الحديث على مقاس مصالح ذلك الآخر، عدوّ العرب الأصلي بل الأزلي في أقلّ تقدير..
والمفارقة المضحكة المبكية هنا؛ أنّ العرب أمسوا بلا قضية حقيقية، وأصبح جلّ اهتمامهم اليوم هو كيفية الوقاية من (فيروس) جديد، أو تنظيم إرهابي متجدّد، المصنوعة بأموال عربية، بغضّ النظر عن الأسامي بالطبع، أمّا الجشع والانتهازية وتجارة الحروب والتآمر على بعضهم والفتن الداخلية والحروب الأهلية والتنافس الشرس وأخلاق السوق المتوحشة واللبرلة الاقتصادية الديناصورية، فحدّث بلا حرج، وهي عناوين “العهد الجديد” للعرب..
واعتادت الشعوب المقهورة والمطحونة والمسحوقة في جميع الكوارث العربية، أن تأتي الاستجابة من “أولي الأمر” متأخرة دومًا عن علاج أوجاع الشارع وهمومه ورغباته ومطالبه، فتصبح عملية (الشفاء) حينها مستعصية؛ لأنّ المرض ببساطة قد استفحل، فماذا بعد؟!
لقد اتضح لنا بصورة جليّة اليوم ومفجعة بذات الوقت حجم الكارثة و(الخطر الوجودي) الذي يسبّبه سوء الوضع الحالي، على جميع الصعد دون استثناء، وما ينجم عنه يوميًا من الأمراض النفسية والمجتمعية التي أنهكت الجسد العربي بشكل عام، والجسد الأردني بشكل خاص، الذي وصل إلى حدّ الخطر في خلخلة تماسكه ووحدته وصموده، أمام التحديات الكبرى التي فرضتها عليه الظروف الحالية (غير العادية) محليًا وعربيًا ودوليًا، والخطط المفروضة عليه والمرفوضة من قبله.
أما آن الأوان للتعامل بحكمة وتعقّل مع التحديات الداخلية والخارجية؟!
بالتأكيد لا توجد وصفة سحرية سريعة، ولكن يجب أن تكون سرعتها في الحدّ الأدنى بمستوى تسارع الخطر القادم لا محالة، وبمستوى الغضب والاحتقان الشعبي، ومع حالة العوز والإحباط الحالية، الناجمة عن “مرحلة الغموض” التي تلفّنا جميعنا من الرأس إلى أخمص القدم.
وهنا مربط الفرس، وهو قرار التعامل (الجريء) جدًا للخروج بدعم وغطاء شعبي من المأزق الذي وقعنا في فخّه، بقصد أو دونه لا فرق؛ لأن الأهم الآن هو تثبيت بوصلة أخلاقية ووطنية ملزمة للجميع، لتحوّل التناقضات الحالية “الداخلية” من حالة الهدم إلى حالة البناء، وتدفع في الوطن ومواطنيه نحو الاستقرار والأمان والتسامي، فلا مناص أمام الجميع للالتزام بمسار تلك البوصلة، وبخلاف ذلك هو (الانتحار) الوطني بعينه..
ونحن قادرون جميعًا بتشاركنا معًا، وبوحدتنا لا بخلافاتنا وشرذمتنا على تخطّي هذه الأزمة، حراكًا شعبيًا وحراكًا مؤسساتيًا وحكوميًا، يدًا واحدة، بما يخدم مصالح الوطن فقط، وبما يؤطّر قوة الجميع ويسخّرها باتجاه مسار واضح متناغم لصالح الوطن ومواطنيه.
وإنّ إمكانية التغيير وقلب المعادلة (كامنة) بحشد “التأييد الشعبي” بأطيافه كافة جنبًا إلى جنب، والعمل المتواصل المتكامل والمتراكم من أجل الوطن، والوطن فقط، وما هو الوطن أصلًا سوى بمواطنيه!!
وواهمٌ جدًا من يعتقد أن الخروج من هذه الأزمة والمأزق الخطير بإمكانه أن يحدث دون ذلك، وهو ما يقود إلى تصحيح مسار البوصلة الوطنية وإعادتها إلى مكانها الصحيح، حيث كانت، وهو أيضًا ما يمكّن الوطن ومواطنيه وحكومته تجنّب الأجندات المغرضة التي تسبّب “قلق الوجود” و تهدّد “أمان الحدود”، والقضاء عليها بالضربة القاضية على محراب (الوحدة) كرامةً للأرض والعرض..
لقد تعب الكلام من الكلام، فإن الكتابة في زمن الكآبة أمرًا ليس سهلًا إطلاقًا، كيف لا والتاريخُ قد تشوّه والحاضرُ مُمّوه والمستقبلُ لا علمَ لنا بهِ ولا أملِ ، فالوطنُ مضطربٌ يا عرب فهل هناك من سلمٍ دون حربِ؟!
ولا يسعني في هذا المقام إلاّ أن أختم بكلمات مختارة بعناية وبتصرّف، ليس تطاولًا على الشاعر بقدر ما هو توكيدًا لفكرة هذا المقال ولوصف حال الوطن البائس، للشاعر “أحمد بن عباس المساح” حين قال:
(لا السيفُ أصدقُ إنباءً لدى العربِ، ولا البليغُ من الأشعار والخُطبِ.. العدوّ يأسر بغدادًا وإخوتها وينشرُ الموتَ في حمصٍ وفي حلبِ، والعدو آونًا بالصلحِ يخدعنا مكرًا، وآونًا بالويلِ والحربِ.. والقلبُ مكتئبٌ والدمعُ منسكبٌ والوضعُ مضطربٌ يا أمّة العربِ.. فشهدنا مصائب ما رأت عينُ الزمان لها مِثلًا لدى الأسلاف ولا حتى في الكتبِ) …
وأخيرًا، ما نشهده اليوم هو رقصات العالم الغربي الذي يهزّ على أوتار الدواء الشافي وأنغام اللقاح الحافي، والطبّال العربي (مفلوز)؛ لأنه مشغول بداء الكورونا ونسي “صفقة القورونا”، ورقصني يا جدع..
لا مفرّ أمامنا خضوعًا لما يمليه علينا ضمير هذا القلم النابض بحبّ الوطن حتى آخر نفس، إلاّ أن نحافظ على الكتابة حتى في زمن الكآبة،، ويبقى لنا من هذا الحديث دومًا قصة أخرى وبقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found