لا شكّ أنّ الإجراءات الحكومية خلال “جائحة كورونا” العالمية، قد أذهلتنا بإدارتها للأزمة بحكمة وحنكة مدهشة للغاية، ولكنّ الجميع – شعبًا وحكومة – قد فاتهم أمر هام لا يقلّ خطورة عن الإصابة بفيروس كورونا نفسه، وإنّ إهماله ربما سيقود إلى نتائج كارثية ليست بأقلّ من كارثة طاعون العصر ذاته، ألا وهي تفشّي (الأوبئة النفسية والاجتماعية)، وأسميتها “أوبئة” لا أمراض أو اضطرابات؛ لأن الجميع يعلم ماذا يعني الوباء وسرعة انتشاره، فالسلوك الإنساني معدٍ بسرعة لا تقل عن سرعة العدوى بالفيروسات..
من المعلوم أن كثير من الظواهر السلبية كانت موجودة في الأصل عند كثير من الناس، ولكن هذه الأزمة عرّتها، وضاعفت من سوئها، وزادت من أخطار نتائجها، على مستوى الفرد والمجتمع والوطن بأسره، ومن هذه الظواهر على سبيل المثال لا الحصر ما أوردته أدناه.
المواطنون جميعًا قبل الكورونا مرهقون نفسيًا، وطفرانون ماليًا، ومضغوطون اجتماعيًا، والأسباب كثيرة لسنا بصدد ذكرها هنا، ولكنها جميعًا تتمحور حول العوز والفقر والغلاء وقلة الحيلة، ولكن الفرق قبل الكورونا عما بعدها، كان لدى المواطنين (منافس) للتفريغ، منها الخروج وقضاء الوقت في تحصيل لقمة العيش، ورؤية الأصدقاء، والذهاب إلى أماكن الترفيه العديدة، أما اليوم ما بعد الكورونا انعدمت وسائل الترفيه عن النفس جميعها، وانحبسوا في البيوت مع بقاء مصدر الضغط الأساسي وهو (قلّة النقود)، والشعب ذكورًا وإناثًا كبارًا وصغارًا غير معتاد إطلاقًا على هذه الحبسة والإقامة “الجبرية”، وإن كانت تصبّ في مصلحتهم، فالطبيعة البشرية تمشي دومًا وفق مقولة (كل ممنوع مرغوب).
وهذا الوضع الضاغط يترتّب عليه انتشار ظواهر عديدة لن نلمس نتائجها الآن، ولكنها ستظهر على السطح قريبًا، وستكون نتائجها وخيمة و”مكلفة” للأفراد وللحكومة، معنويًا وماديًا على حدّ سواء..
فالرجل غير المعتاد إطلاقًا على المكوث في المنزل سوى سويعات قليلة في يوم الجمعة، أُجبر اليوم على قضاء الوقت ليلًا ونهارًا مع عائلته، ولأنّ مجتمعنا ذكوري بامتياز فهذا الوضع يقوده إلى ممارسة العنف مع زوجته وأولاده وعائلته إن كان عنيفًا من الأساس، وربما يصير أكثر عنفًا حتى لو لم يكن عنيفًا بطبعه، فسنشهد قريبًا زيادة (العنف الأسري) من ضرب الزوجات وضرب الأبناء، والعقاب المستمرّ، والصراخ الدائم خلف الأبواب الموصدة، صحيح أنّ هذا الوضع كان سائدًا من قبل، ولكن الفرق هنا أنه لا يوجد منفس للزوجة مثلًا للخروج ورؤية أهلها وصديقاتها لتفريغ الثقل عن نفسها، وليس متاحًا الآن للأولاد الخروج لِ اللّعب مع الأصدقاء، فيبقى التوتر حبيسًا معهم في المنزل، ويتم إعادة تدويره يوميًا بين الجميع، لذلك ستزيد نسبة (الطلاق) لاحقًا أكثر مما هي عليه الآن، وستزيد (عُقد الطفولة والمراهقة) بسبب القلق والخوف من العقاب والتعرض للضرب، وسيزيد إرهاق الرجال النفسي، وستزيد الأعباء المنزلية على المرأة التي يقع عليها رعاية الكل دون مساعدة تحت بند (أنا زلمة وهاي مش وظيفتي).
والكل سيُسقط غضبه على الكلّ، وهذا بدوره سيقلّل من كفاءة جهاز المناعة مما يجعل العرضة للإصابة بالكورونا أعلى، والأخطر من ذلك أنّ كثرة الضغط يولّد الانفجار، وقد يقود المواطنون نحو العصيان كدفاع نفسي بسبب شعورهم بالقيد والحشرة دون إمكانيات..
ولا ننسى أنّ “الدخان والأرجيلة والقهوة” هي من أساسيات الحياة للشعب المضغوط، وليست كماليات كما يدّعي البعض حتى لو كان مضرًا؛ لأنه أحد وسائل التنفيس عن النفس للشعب المطحون، ولا تستهينوا ما يسبّبه قلّة توافره أو انقطاعه؛ لأنّ (إدمان) النيكوتين والقهوة “جسديًا وسلوكيًا” لا يمكن علاجه بالانقطاع المفاجىء ومرة واحدة، حتى لو كان هذا الشخص يريد ذلك، فما بالكم عندما يصبح الانقطاع “قسري” وما يصاحبه من الرعب النفسي لما يحصل في العالم، وهذا بدوره يجعل ذلك الشخص أكان رجلًا أم امرأة دائم الغضب والتوتّر، ويُفرّغ ذلك على أهل بيته، ودومًا الخاسر الأكبر هم الأطفال والمراهقين..
ومن الظواهر الأخرى التي كانت موجودة وتفاقمت بعد الكورونا بقباحة، هي ظاهرة (التحرّش الإلكتروني)، وظاهرة (التنمّر الافتراضي)، فالأولى كانت تسلية الرجال والأزواج في أوقات الفراغ، والآن أصبحت شغلهم الشاغل من الصباح حتى الرباح، وهذا طبعًا يسبّب مشاكل زوجية ونكد مستمرّ في المنزل، ويسبّب أضرار نفسية وعائلية لمن تتعرض من أصحاب النفسيات المشوّهة إلى الإزعاجات والمضايقات.
أمّا الثانية وهي “التنمّر” على جميع وسائل العالم الافتراضي فقد زاد عن حدّه بعد الكورونا، ولا يدرك كثير من الناس الحدّ الفاصل بين النغاشة والسذاجة، وبين الحرية الشخصية وبين التعدّي على الآخرين، فلا ضير من النكات والفكاهة للتخفيف عن أنفسنا في هذا الوضع، ولكن بعيدًا عن (الشخصنة) وإيذاء الآخرين والإضرار والتشهير بهم، فتصبح معلوماتهم الشخصية مستباحة على الملأ..
أمّا اللّعب في (الساعة البيولوجية) للجسد، من خلال قلب ساعات النوم بشكل معاكس للطبيعي أو لما هو معتاد للشخص، فهذا أيضًا يسبّب الإرهاق الجسدي وما يتبعه من زيادة التوتر والقلق، ويؤثر بدوره على إضعاف جهاز المناعة، والأخير هو الأساس لمقاومة جميع الأمراض والفيروسات..
ومن الأمراض النفسية التي ستمتلىء بها العيادات النفسية ما بعد الكورونا، (القلق) بجميع أنواعه، سواء الوساوس بأشكالها المختلفة ووسواس النظافة على وجه الخصوص، وجميع أنواع الرهاب ومنه الاجتماعي ورهاب الموت، وتوّهم المرض، ونوبات الهلع، وربما اضطراب ما بعد صدمة الكورونا، ناهيك طبعًا عن سرعة الإصابة في الاكتئاب وتفاقمه وزيادة عدد المصابين/ات به.
كما ستمتلىء العيادات الاجتماعية لعلاج المشاكل الأسرية والزوجية، وما ترتّب عن الحجر المنزلي وفوبيا الكورونا والسلوك الهستيري من مشاكل عديدة..
طبعًا لا يسعني هنا في هذا المقال القصير أن أعرّج على جميع الظواهر السلبية التي تؤثر على الصحة النفسية للفرد والصحة المجتمعية للوطن، فالقائمة تطول وتطول، فهي دائرة مرهقة تُعيد إنتاج نفسها ويتوسّع مدارها يومًا تلوَ الآخر، وما أن نصل لنهاية أزمة الكورونا نكون قد دخلنا بأزمات نفسية واجتماعية لا تقلّ خطورة..
وحتى نخرج من دائرة الوصف لتلك المخاطر ومحاذيرها، لا مناص من لفت النظر لبعض الإجراءات “الوقائية” على مستوى قاعدي وهرمي في ذات الوقت، وبما أننا اليوم في (ظرف استثنائي)، فإنّ كل ما يتبعه يجب أن يكون استثنائيًا أيضًا، على مستوى الحكومة والشعب، وأهمها إعادة ترتيب (الأولويات)، داخل المنزل وخارجه، من الفرد والدولة كذلك..
وأتوجه للحكومة من هنا بالقول أنّ القرارات العسكرية لوحدها لا تكفي، وحتى تنجح القرارات ويُذعن لها المواطنون، لا بدّ أن تكون مبنية على “سيكولوجية المواطنين”، و(سوسيولوجية المجتمع)، لذلك يجب أن تستفيدوا من “الخبرات المحلية” والكفاءات – التي يستفيد منها الدول الأخرى أكثر من الوطن – بحيث يكون ضمن لجان إدارة الأزمة طبيب/ة نفسي، مختص/ة نفسي، مختص/ة اجتماعي، حتى تكون القرارات مكتملة من جميع النواحي ولا تقتصر على الجانب (الأمني) فقط.
وأتمنى عليكم أيضًا توجيه مختبرات الجامعات ومراكز الأبحاث والإيعاز لهم للعمل الدؤوب على الإنتاج العلمي، فماذا ينقصنا لتطوير لقاح أو دواء للكورونا وغيرها، فلدينا كفاءات علمية وقدرات تعليمية كنّا نباهي بها الأمم، فلماذا نبقى معتمدين على الغير والغرب (الكافر) لاختراع أدوية وعلاجات لنا؟!
أمّا بالنسبة للأسر والعوائل، فأنصحهم جميعًا، بأن يتعاملوا وكأنهم في حياتهم الاعتيادية وليس في إجازة، ولكن داخل المنزل لا خارجه، بمعنى أن تكون مواعيد الصحوة والنوم كما هي، وتنظيم الوقت اليومي بحيث يكون موزّعًا بشكل مريح على الدراسة والتدريس، والقراءة، ومشاهدة التلفزيون بعيدًا عن الأخبار المزعجة، واللعب، واستخدام الأجهزة الذكية، والأكل، والرياضة، وجلسات عائلية لتقويم السلوك يشارك بها الجميع ويُبدي رأيه من خلال الحوار الهادىء والهادف، للخروج بقواعد سلوكية جديدة، لعلّ إعادة ترتيب بناء البيت الداخلي حان وقته اليوم.
وإن استطعتم “تنظيم الوقت” وتوزيع عدد ساعات اليوم على جميع ما ذُكر، ستقتلوا ملل الوقت بدلًا من أن تقتلوا بعضكم وأنفسكم، ولن تشعروا إطلاقًا بساعات النهار، وفي الليل الجسد والعقل يحتاج إلى النوم فقط..
ولمن يحتاج التفريغ بالتحدث إلى المختصين/ات واستشارتهم في شؤونهم النفسية والأسرية والزوجية وغيرها، اقترح على الحكومة تشكيل لجنة – بما أننا نبرع في تشكيل اللجان – هذه اللجنة تضم الكفاءات من ذوي الاختصاص النفسي والاجتماعي، لمساعدتكم على إخراج قراراتكم بما يناسب سيكولوجية الجمهور، وتساعد الشعب نفسه على التنفيس بطرق علمية صحيحة، لا من خلال تسوّق الآراء من مشاهير وسائل التواصل التي تكون أغلبها مغلوطة أو منقوصة، وتفتقر إلى آليات فعّالة لكيفية التطبيق الصحيح والمتناسب مع ديناميكية الفرد والأسر..
وإن أطلنا عليكم، ولكن لا مفرّ أمامنا جميعًا من التعاضد والتضامن والتعاون والتكافل يدًا بيد شعبًا وحكومة، للخروج من هذه الأزمة بسلام وبأقلّ خسائر ممكنة، ولعلّ القلم والكتابة أضعف الإيمان.
ولحين خلاصنا من طاعون العصر، سيبقى لنا دومًا من هذا الحديث كمشات حكي وقصص أخرى وبقايا لا بقية واحدة فقط… دمتم….
كلام في غاية الأهمية … وذو فائدة.