طفولة عن بُعد

طفولة عن بُعد
1٬873 مشاهدة

لا شكّ أنّ التحديات الكثيرة التي تُحيط بنا من كل حدب وصوب تفرض علينا “استجابات” على أرض الواقع متناسبة معها، فأزمة كورونا فرضت على العالم أجمع اتخاذ تدابير احترازية للتعايش معها لحين السيطرة عليها، ومن ضمن هذه الإجراءات تحويل التعليم ليصبح عن بُعد، وعلى الرغم من أهمية هذا التحوّل “الرقمي” إلاّ أننا يجب أن نُخضعه لمختبر (الواقع العربي) ونرى سلبياته وإيجابياته، وذلك لتلاشي سلبياته لاحقًا وتعزيز إيجابياته على مدى طولي، وكذلك لتطوير التعليم عن بُعد بشكل تراكمي بما فيه مصلحة الطلبة ولا سيّما الأطفال منهم على وجه الخصوص، من خلال التعديل المستمر بعد قياس أثر النتائج في كل مرحلة في ظل الوضع الحالي..

وبما أننا دومًا مستهلكون لا منتجون، وفي ذيل العالم المتقدم الذي لم يكن هذا التحوّل بالنسبة له مُفاجئًا ولا (قسرًا) كما حدث في بلداننا “النائمة”، فحريٌّ بنا اليوم بدلاً أن نكون مثل النعامة وندفن رؤوسنا في الرمال، أن نقوم بدراسة هذا التحوّل الرقمي للتعليم وأثره في تحويل الطفولة عن بُعد أيضًا من منظور علم النفس الاجتماعي..

ألا تلاحظون أنّ أطفال العرب اليوم قد فقدوا البراءة وتجمّدت مهاراتهم الاجتماعية، وضعفت مهارات التعبير لديهم، وخلوا من المشاعر لأهليهم والاحترام لمعلميهم!! 
وهذا الوضع المأزوم كانت نتائجه بأن أخرج جيلاً عنيفًا ومتمردًا بكل المقاييس، فحرمته جوائح العالم المتتالية -وكورونا ليست أقلها- من الفرص، وحرمتنا كذلك من تربية أبناءنا وبناتنا على أبسط القيم ومعايير الأخلاق، ففقدنا السيطرة تمامًا، وأوشكت (المهارات الاجتماعية) جميعها على الذوبان قبل تحوّل التعليم عن بُعد فما بالكم من بعده، وذلك حين كانت معظم أوقات الأطفال تُقضى أمام شاشة جامدة فجمدتهم من صقيع الغياب لأنسنتها، وكنا وقتها نضمن عددًا لا بأس به من الساعات اليومية التي يقضيها الأطفال في “التفاعل البشري” مع بعضهم البعض خلال أوقات دوام المدرسة، أما الآن فهم من الصباح حتى الرباح يتسمّرون في بيوتهم بل في تخوتهم أمام الشاشات، ولم يعد لديهم أدنى اهتمام بالنظافة والترتيب، ولا زيارة الأهل والأصدقاء، ولا حتى احترام القيم كعدم الغشّ في الامتحانات على سبيل المثال، بل أصبح “الغشّ” مهارة جديدة تُضاف لقاموس مهارات الطفولة (الرقمية) الحالية، فحلّ الغش محل التنافس والدراسة والبحث وأمسى من صفات الإبداع الدراسي للأسف الشديد.. 

أرجو أن لا يُفهم مقالي هذا وكأنني ضد التعليم الرقمي، وعلى أهميته إلاّ أنني ضد تحويل الطفولة معه لتصبح عن بُعد، حيث ينقصها كل شيء باستثناء الطفولة ذاتها، فتبدّل ليل الأطفال بنهارهم، وحُرموا من جوّ الرفاق والتنافس العلمي النظيف فيما بينهم، ولم يعودوا يؤمنوا بأهمية التعليم والشهادة بقدر إيمانهم بأهمية الحصول على كل شيء بسرعة،  والوصول إلى (الكسب السريع) دون المرور بمراحل التعليم ومؤسساته جميعها. 

فأضحى هذا الجيل يفضّل (العمل) على العلم؛ لأنهم فقدوا الثقة بالأخير وأدركوا عدم جدواه للأسف الشديد، ناهيك بالطبع عن ضيق الحال وعدم إمكانية الأسرة بتوفير متطلبات التعليم الحديث وأدواته..

وبعد كل ما سبق، كيف بإمكاننا حماية الأطفال والطفولة من سموم المعلومات والوقوع في فخّ الجهل والسقوط في حفرة التجهيل دون وضعهم داخل حاضنات أو عبوات معقّمة تحفظهم حتى تضع الحرب البيولوجية أوزارها؟! 

وكيف لنا منع أطفال العرب من رؤية الدم والتدمير والأشلاء ومنظر أهلهم القتلى دون أن نعميهم ونطرشهم والحكم على حواسهم وأحاسيسهم الأخرى بالتوقف ولو مؤقتًا، ثم منحهم إياها مرة أخرى بلمسة سحرية عندما يحلّ السلام ؟؟!!

وأكثر من ذلك أيضًا، كيف بإمكاننا ترسيخ مشاعر الغفران والتسامح لديهم وتعليمهم التعاطف في ظل ثقافة العوز وعدم العدالة مقارنة بالقلّة المستحوذة على كل الامتيازات من أقرانهم؟!

وكيف نمنع زوال النقاء الطفولي وبراءة الأطفال دون الاستعانة بِ(ريموت كونترول) عاطفي يتحكم بالمشاعر الإنسانية بمسافة مدروسة؟!

وكيف يمكن لأطفال المدن العربية المنكوبة بالحروب والتهجير واللجوء اختيار مستقبلهم دون مدارس ومعلمين واثقين، ودون مناهج محدّدة وكتب وقرطاسية ووسائل نقل آمنة ودون أجهزة كمبيوتر وحزم الانترنت في ظل التعليم عن بُعد حاليًا ؟!

كيف بإمكان هؤلاء الأطفال أن يرسموا الدنيا الجميلة دون ألوان ودفتر رسم وخيال للحياة الآمنة التي لم يتعرفوا عليها بعد ؟!

إنّ العبث بعقول الأطفال وتركهم دون تربية ولا تعليم ولا حتى توجيه، لن يخلق جيلاً مضحّيًا من أجل وطنٍ لم يتعرفوا عليه بعد، ولم يستمتعوا بخيراته ولا حتى ثراه، ولا يمكن تنشئتهم كذلك على مبادىء لم يفهموا معناها ولا مبرراتها، كما ليس بإمكاننا فرضها عليهم وهم في مرحلة عمرية لا يملكون فيها قدرة الاختيار..

هل ما زلتم تتساءلون عن سبب زيادة المرضى النفسيين والعقليين وكثرة الشخصيات المضادة للمجتمع وتزايد العنف ومشاكل المراهقة في الوقت الحالي؟! 
وهل ما زلتم لا تعلمون سبب غياب الولاء والانتماء للوطن بين الأطفال والمراهقين ورغبتهم الشديدة بالهجرة وإعجابهم بكل شيء إلاّ الوطن؟!

لعلّ الإجابة تكمن بأنّ السبب يعود إلى زجّ الأطفال في (ألعاب الكبار)، وهذا المصير القميء يتحمّل أوزاره جميع أطراف المعادلة دون استثناء..

وبعد كل ذلك لا ببعضه، ليس من الأخلاق ولا المنطق أن نطلب من شعب مسحوق ومطحون أن يلاقي من حرمه من طفولته ومن قتل أحلام صباه بالورود ومن خنق آماله بالأحضان ؟!

الجدّية في حماية بناة الغد تُثبت مصداقيتها حين تُثبت قدرتها على إيقاف سلب الأطفال لبراءتهم، وتحقيق العدالة أو توزيع الظلم والحرمان بعدالة في أقلّ تقدير، وإعادة منح الحقوق المسلوبة، وهنا فقط بإمكاننا كسر دائرة العنف السائدة..

وأخيرًا وليس آخرًا نقول وربما نحذّر أنّ حبّ الاستطلاع لدى (الأطفال) مع قلّة الخبرة أو ضعف المزوّدين بالخبرة سواء من الأهل أو نظام التعليم والقائمين عليه، هي ثنائية شائكة لا تجمع أبدًا بين الإرادة والحكمة، وعليه فإنّ الخطأ والزلل وربما “الجريمة” سيكون مُتاحًا ومتوفرًا بسهولة بين الجيل الحالي، فلا تستغربوا الآن ولا تنصدموا مما هو قادم..

واتعظوا يا أولي الألباب ويا أولي الأمر، وأطلقوا العنان للعقل والحكمة قبل فوات الأوان..
وحتمًا سيكون لنا من هذا الحديث بقايا كثيرة … دمتم….

دة. عصمت حوسو

رئيسة مركز الجندر للاستشارات الاجتماعية والتدريب

Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found

اترك تعليقاً

Don`t copy text!