الحرّية كلمة نتحيّز لها جميعًا “وجوديًا”، وننزع إليها كلّنا “وجدانيًا”، وهي التي يتّفق على “حضورها” كلّ الناس، كما يختلف على “حدودها” كلّ الناس كذلك؛ لأنها مندفعة للعطاء وكأنها تُسابق نفسها، فتصبح موسيقى جميلة عند الرضا، وخيلاً جامحًا عند الغضب، فتمسي مزيجًا بين الحبّ والجرأة، فليس في قاموسها (الحلول الوسط)..
الحرّية تكون منسجمة مع نفسها عندما تتّفق مع قيودها التي تعدّها هي بنفسها وإن كانت قاسية، لا تلك القيود المفروضة عليها، المهم أن لا تكون منسوخة عن الآخرين تفاديًا أن تُمسي ممسوخة..
تثور الحرّية عندما تستشعر ظلمًا كشجاعة الفرسان، وتسكب تسامحًا مذهلاً حدّ الإغراق الأنثوي خوفًا من أن تجور، فلا تحتمل ما بين بين؛ بسبب شراستها في الحقّ والحقوق، فلا تقبل “قتلها” الذي يمارسه المجتمع بحقّ أفراده عن طريق الهيمنة والتسلّط بأشكال مختلفة، وربما يكون هنا (الاستبداد السياسي) في بعض النماذج أقلّها تطفّلاً على حرية أفراد المجتمع، فمحاولة تكميم الأفواه وقسر الأفراد على تبنّي خيارات معينة ليست حكرًا على الحكومة المستبدّة التي تملك أدوات القمع وسلطة تطبيق القانون بشكل انتقائي ودون أيّ مساءلة فحسب؛ إنما هناك قمع أخطر وإجبار أوحش يمارسه المجتمع ضد أفراده من الجنسين يُسمى بِ(الطغيان الاجتماعي)، وهو لا يقلّ بشاعة عمّا تُمارسهُ السلطة المتجبّرة، فالإكراه الاجتماعي لا يترك وسائل كثيرة للإفلات منه؛ لأنه ببساطة يتغلغل في تفاصيل الحياة الخاصة للأفراد دونما رادع، فيحدّد لهم ما هو مسموح وما هو ممنوع الحديث حوله وعنه وفيه، وما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وما هو محبوب وما هو مكروه اجتماعيًّا، والأكثر من ذلك عندما يستأصل هذا التغوّل باسم “الأغلبية الاجتماعية” على كل رأي يحاول النموّ نموًا طبيعيًّا خارج هيمنتها، وبهذا يتحول رأي الجمهور وسطوته إلى استبداد (اجتماعي) جديد لا يقلّ سوءًا عن الاستبداد السياسي..
الحرّية التي نرنو لها هي تلك التي تفصّل حيّزها المنطقي ليُناسب مقاس امتدادها، ذلك الحيّز الذي يُرغمها على احترام حيّز الآخرين باحترام مداده كزرقة السماء، فتجبرهم على أصول التعامل بالمثل..
ومن يتذوّق طعمها لا يمكن أن يقبل بعد الحرير رداءً، فإما أن تأخذها قسرًا أو تتركها طوعًا، وبدونها ستفقد الحماس والإبداع، ومعها تكون واثقًا جدًا ومتعلّقًا بها حدّ الجنون؛ لأنها تترك فينا فرحة المنتصر ونشوة العاشق..
وبما أنّ الحرية صدرت أساسًا باستفزاز القلق على “حقوق الإنسان”، وبعين الراصد والحريص على مستوى هذه الحقوق، فإنّ صيانة الحقوق والحفاظ على مكتسباتها والوصول إلى مستوى أرفع منها، يكمن في قدرة (السلوك الإنساني) بجميع أطره على قبول تحدّي معطيات الحرّية، للتكيّف مع مساحتها، والاستمتاع بحيّزها دون مغالاة تشقّ أثوابنا وتعرّينا أمام الأغيار..
وإذا كان الأمل الذي يحدونا جميعًا هو سقف (حقوق شامخ) ومترفّع، فإنّ شموخ هذا السقف لا يتّفق مع مستوى سقف واجبات (قزم)، ومن ينكر الحرّية على غيره لا بستحقها لنفسه..
ولا شكّ أنّ قيادة مركبة بمحرك عالي السرعة تحتاج إلى “أوتوستراد مفتوح” لا شوارع ضيقة ومكسّرة، وفي الوقت ذاته يحتاج هذا السائق إلى حتمية الخبرة و(الحكمة) وانعدام الرعونة، وتلكم جميعًا مواصفات الكفاءة عمومًا التي نفتقدها ونتوق لها..
فالحرّية عميقة إلى مستوى البساطة، وبسيطة إلى مستوى التعقيد، كيف لا وهي تحمل (القيمة) لا الثمن، وأينما وُجدت الحرّية وُجد الوطن، فهي الحياة بأسرها إن كانت مجبولة بالفضائل لا الرذائل، وأينما وجدت الحرّية قضت على (الاستبداد) بالضربة القاضية..
وكما يقول إيمانويل كانت “لا أحد يستطيع إلزامي بطريقته كما هو يريد لأصبح فرحًا وسعيدًا، كل منا يستطيع البحث عن سعادته وفرحه بطريقته التي يريد وكما يبدو له الطريق السليم، شرط أن لا ينسى حرية الآخرين وحقهم في الشيء ذاته”..
محاربة الفكر لا تكون إلاّ بالفكر، والاعتراض على الرأي تكون بسماع الرأي الآخر وتقبّله واحتوائه، أمّا مقارعة الحجّة فلا يمكن لها أن تكون إلاّ بحجّة أمامها بحوار هادئ وهادف وبنّاء دون مصادرة أو قمع، والحالة الوحيدة المسموحة للتدخّل بحريّة الأفراد عندما يبدأ الإيذاء المباشر للآخرين، وبخلاف ذلك يعتبر تدخّل سافر لأبسط حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه تصبح أيضًا كل الحوارات عن الحرّية والتحرّر من الاستبداد هي مجرّد كلاشيهات للاستهلاك الإعلامي لا أكثر، أو إبر مورفين لتحقيق مآرب خاصة على حساب الوطن ومواطنيه، وربما يكون (تسويف) لغاية التسويق فقط..
وفي وسط (الهيجان العاطفي) الذي نشهده حاليًا في الوطن، يتكاثر أعداء حرية التفكير والتعبير بشكل غير مسبوق، وهم مستشرسون في قمع خصومهم، ومحاولة النيل منهم بكل وسيلة، لكن ما لا يستوعبه هؤلاء، ويسيئون تقديره دائمًا، أنّ مسامات الحرّية تتوسّع باطّراد، وأنّ “الاستفراد” بالرأي بات مستحيلاً في العصر الحالي، وأنّ زمن شيطنة المخالفين وترهيبهم قد ولّى وعفى عليه الزمن، ولم يعد “الاستخفاف” بحرّية الشعوب وعقولهم يجدي نفعًا..
وأخيرًا ننوّه بأنّ المجتمع مُتخم بالحرائر والأحرار ولكنهم مسلوبي الحرّية ذاتها؛ لأنّها مجتزأة ومبتورة، ولكن حين يصمت القانون ستعلو أصواتهم، وعليهم الانتباه جيدًا بأن لا يسمحوا بأيّ حال من الأحوال (للهستيريا الغرائزية) التي تصاحب سطوة الرأي العام أن تطغى عليهم؛ لأنها حتمًا ستفقدهم شرعيّة امتلاك الحرّية وممارستها، فاتعظوا وعوا يا أولي الأمر وأولي الألباب..
دائمًا وأبدًا سيكون لنا في شؤون السلوك الإنساني أحاديث أخرى وبقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found