القدس عصيّة على الانكسار

القدس عصيّة على الانكسار
1٬786 مشاهدة

الهمّ العربي بشكل عام ووجع فلسطين بشكل خاص يُلقي بثقله على أحرار الأمّة وشرفائها حدّ الاختناق، ويؤزّمهم حدّ الوجع، ويتثاقل فيهم حدّ الورم، كما يوغل في جرحٍ مداده دماء شهداءٍ مهدورة، وينقلهم إلى عجز أطفال فلسطين وهم يروا بيوت أهليهم وأجدادهم تُسرق وتتهدّم على كل ما فيها من تاريخٍ وذكريات، الأمر الذي يذكّرهم بأنّ ما بيدهم حيلة سوى (التمنّي) ولكن ما من جدوى للتمنّي..

ومن يشكو وجع خاصرته (فلسطين) من العرب، فإنّ أحرار الأمّة العربية يشكون من وجع خاصرتين في آنٍ واحد، شرقية تُثقله ألمًا، وغربية تنزعه من صوابه، فإن تلوّى أيٌّ منهم على أحد الجانبين ضجّ عليه الجانب الآخر بما لا يطيق وبما لا يتحمّل، فليس بإمكانه الوقوف مستقيمًا دون (التلوّي) من حدّة الآلام العربية الكثيرة، لعلّ أكثرها قساوةً وألمًا الوجع على حال فلسطين بشكل عام وعلى “القدس” بشكل خاص..

هذا حال الأحرار من الشعوب العربية، فليس بإمكانهم إتقان الغرق في خيال “التمنّي”؛ لأنهم متورطون في واقع الوجع الفلسطيني، وهي حالة مرهقة جدًا ترافق الأغلبية إن لم يكن الجميع أفرادًا وجماعات، وربما كانت كامنة وغير فاعلة إلاّ أنها تنطلق من قمقمها وقت الشدائد العظام، وما أكثر الأخيرة حاليًا، ولكن أشدّها ما يُحاك للقدس اليوم..

لذلك تعيش الشعوب العربية اليوم حالة من الصراع الداخلي بين ما يريد منهم أن يفعل ويقول، وبين ما يستطيع فعله وقوله، صراعٌ مرير بين الوجدان الصادق والعقل المقيّد، وبين الرغبة بالانفلات والجموح طوعًا وبين حقيقة القيد والأفواه المغلقة قسرًا..

ربما هذا الصراع يطال غالبية الشعوب العربية مع اختلاف معطياتهم وظروفهم المحليّة، ولكنه يطال الأحرار والشرفاء من أبناء الشعب العربي وبناته أكثر وبخصوصية جارفة؛ لأنها ترافق الرغبات الوجدانية (العروبية) العارمة، والفلسطينية على وجه الخصوص، على الرغم أنّ أوطان هؤلاء تعاني أكثر الظروف صعوبة مما يمرّون به في جميع مناحي الحياة ومن هشاشة معطيات واقعهم..

وإنّ حلّ هذا الصراع المتفاقم لا يمكن أن يحدث أو يتمّ إنجازه خلال هذه الأزمات الجارفة، ولا عبر الطفرات، وإنما يجب أن تكون عملية دؤوبة تسعى لإعادة صياغة العقل العربي بفكرٍ جديد؛ لأنّ الفكر لا يُحارب سوى بالفكر طالما لا نملك أسلحة غيره في الوقت الحالي بأقلّ تقدير، وما يمكن أن يساعد في تخفيف الوجع العربي والفلسطيني منه، يكمن في صياغة (الوعي الحقيقي) والذي لن يتبلور إلاّ من خلال تقليص الهوّة العلمية والمعرفية والبحثية التكنولوجية مع العالم، وذلك بسواعد أبنائه وبناته، حتى يغدو بإمكانهم تطويع ثروات الوطن العربي وإمكانياته نحو خدمة الشعوب العربية، ربما ذلك سيمكّنهم يومًا ما من إخراج مبدأ “الوحدة العربية” والتكامل العربي من حدود التنظير والشعارات نحو التلاحم العضوي والوحدوي، عدا ذلك ستبقى حدّة الألم توجع الأمّة وخاصرتها فلسطين بذات الوتيرة وربما أكثر..

ولا يبقى لنا اليوم سوى التفوّه بِ(التمنّي) كما تفوّهت به الأجيال التي شهدت الهزائم العربية والتناقض العربي للأسف الشديد، ونتمنّى أن يمرّ كابوس ((التطبيع)) بالانتصار والرفعة للعرب، وأن تعود عنجهية القوّة مدحورة ومهزومة، لعلها تكون المقدمة لحلّ أحجية التآمر والخذلان العربي، وما يعزّينا بهذه الظروف هو صمود الشعب الفلسطيني وأسودها من المقدسيّين؛ لأنّ ثباتهم ينطلق من أنّ (القدس) عصيّة على الانكسار..

ونختم أخيرًا بما قاله الشاعر أحمد شوقي:
وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي،، ولكن تُؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قومٍ منالٌ،، إذا الإقدام كان لهم رِكابا..

وسيبقى الوجع الفلسطيني متفاقمًا طالما لا نملك سوى ((التمنّي)) والتغنّي بأمجاد الماضي دون فعل حقيقي على أرض الواقع…

وسيبقى لفلسطين منّا حوارات أخرى كثيرة طالما وجعها حيًّا… دمتم….

دة. عصمت حوسو

رئيسة مركز الجندر للاستشارات الاجتماعية والتدريب

Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found

اترك تعليقاً

Don`t copy text!