التشخيص النفسي الشهير (اضطراب ما بعد الصدمة) أو عُقبى الكرب هو شكل من أشكال القلق، وتم توصيف هذا المرض عالميًا للدلالة على التفاعلات النفسية والجسمية التي تلي التعرض لمواقف صعبة ومأزومة تحيد عما هو مُعتاد. مثل تلك المواقف – وما أكثرها حاليًا – تُهدّد الحدود الجسدية والنفسية للإنسان وتشي بعدم الأمان ونقص المناعة من الأخطار والأضرار، وما أكثر الأخيرة أيضًا.
إن التطرّق لهذا الموضوع الآن بات أكثر إلحاحًا في هذا الوقت بالذات من أي وقت آخر؛ توقيت رفع الأسعار الجنوني ورفع الضرائب التي أثقلت كاهل المواطنين جميعًا. فلم نصحُ بعد من صدمة تهويد القُدس، لتتوالى الصدمات العربية والمحلية علينا حتى أمسينا جميعًا مُصابين باضطراب ما بعد الصدمة خاصة بعد الرفعة الأخيرة، وقد يكون من المقبول أن نُعدّل على اسم المرض أردنيًا فيصبح اسمه (اضطراب ما بعد الرفعة).
وما ساء في حالنا وأحوالنا وتدهور حالتنا النفسية سوءًا، هو ما رافق صدمة الرفعة الأخيرة من اعتذار الكيان الصهيوني المُجرم (الصوري) عن الدماء الأردنية النقيّة التي أسالها على أرضنا وفي عُقر دارنا ببجاحة ووقاحة.
تلك الصدمات المتوازية التي وقعت على رؤوسنا جميعًا هي تجارب جديدة علينا من حيث شِدّتها وتوقيتها وتزامنها مع بعضها البعض، وفي العادة فإن شأن أي تجربة جديدة مهما كانت فهي تُحدث نوعًا من الارتباك وعدم التأقلم؛ فكيف يكون الأمر إذن مع تجربة خارجة عن حدود الصبر وإمكانات المواطن العادي وواقعه الاعتيادي!!! هل من حكيم يُجيب سؤال المواطن المشروع والمتداول حاليًا بعد عُقبى الكرب “وين الصبر ألقاه” ؟؟، وهل هناك كُربى أشدّ وأنكى من إفراغ جيب المواطن ومعدته وصحته كذلك ؟؟!!
إن مقياس وجود هذا المرض لدى أيّ منّا يتمثل في تراجع الأداء الاجتماعي أو الوظيفي، والمؤشر الأهم هنا هو تدنّي مقياس السعادة، لا داعٍ هنا للبحث عن الأسباب الجاثمة خلف تلك المُعاناة وعدم الارتياح؛ فهي ساطعة كالشمس.
حالة الذهول التي تُصيبنا الآن جميعًا هي مُترافقة مع حالة الوجوم والتجمّد والفزع وفقدان القدرة على التفكير وإيجاد الحلول أيضًا. كثيرون هم حاليًا من فقدوا قُدرتهم عن التعبير والعمل وحتى البكاء، كيف لا يُصابون بهذه الحالة إزاء ما يرونه من الفظائع التي تُرتكب يوميًا على مرآهم ومسامعهم محليًا وعربيًا. فلا تستنكروا عليهم هذا الوجوم، ولا تلومونهم على سلبية مشاعرهم؛ فهم (مطحونين).
ضجيج هذا الموقف الأليم استبدل ساحة المعركة مع العدو إلى ساحة الذات؛ لتشتعل فيها معارك أشد ضراوة وشراسة تضيق عن احتمال النفس، فتظهر تداعياتها بالتصرفات والسلوك والمشاعر، والمشهد المحلي الآني يُرينا ذلك بجلاء تام.
كنا نتشبّث بمنطاد هواء عملاق على أمل البقاء عاليًا في علوّ سحابة الأمن والأمان، ثم اكتشفنا أننا على ارتفاع (غير مأمون) وأن هذا المنطاد الموهوم ما هو إلاّ (فقاعة) هوت بنا إلى القاع تاركة فينا رضوضًا وإعاقات مُختلفة. باتت إصاباتنا الآن دون أدنى شك (نفسية) بحتة، أخذت شكل العواطف والسلوكات والانطباعات المسكونة بالحسرة والخذلان وتهاوي الأمل.
هذا هو حالنا اليوم؛ فنحن جميعًا مصابين باضطراب ما بعد الصدمة بعد كُربى الرفعة، رفعة الأسعار والضرائب وتهاوي الأمن والأمان.
وهل هناك غرابة من الإصابة المُجتمعية بهذا المرض النفسي في ظل ما يحدث حاليًا؟؟ لا اعتقد ذلك على الإطلاق.
والنتيجة الحتمية لإصابتنا باضطراب ما بعد الرفعة أن ردّات فِعلنا الآن غدت تأخذ شكل (الخدر العاطفي) ووصلت حدّ (التبلّد العاطفي) كذلك؛ لا عجب هنا على الرغم أنها مشاعر مُرهقة ومُرعبة في ذات الوقت، كيف لا بعد كل عجائب العرب وكل تلك الصدمات والرفعات وتكرارها بمأساوية تارة وبهزلية تارة أُخرى. كُلّنا الآن في حالة من الذهول (والخَرَس) والحذر العاطفي، وهو أيضًا متوقع.
هذا الوقت هو حتمًا وقت التفاجؤ لا الحزن، هذا وقت الدهشة، إلى متى سنبقى في هذه الحالة؟؟ الجواب عِلمه عند الله وربما يكون عند حكومتنا الرشيدة أيضًا، أمدّها الله بالحِكمة والبصيرة وأجارنا جميعًا من القادم المجهول.
في ظل هذا المشهد الضبابي والغلاء الجنوني وتسارع الأحداث المجوني سيكون لنا فرصة أُخرى لهذا الحديث؛ فمن المؤكد أن يكون له بقية…. دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found