معرفة نفسك أجدى

معرفة نفسك أجدى
1٬687 مشاهدة

الوعي الذاتي للسلوك الإنساني نشتمّه مع الهواء، ونرشفه مع الماء، وربما يمتزج مع كيمياء الدواء، فهو رقعتنا الجغرافية التي نستطيع من خلالها أن نناور ونحاور ونجتهد ونبني..

وما زال السلوك الإنساني تحت وطأة الإفتاء العشوائي، والاجتهاد الغرائزي، والحكم والتقدير الفضفاض، ولا يخرجنا من هذا المطبّ سوى (بناء الوعي الذاتي) ومنه ننطلق للوعي الجمعي والاجتماعي الصحّي لا الزائف..

كثيرٌ من الناس يعيشون ويموتون وهم لا يعرفون أنفسهم، فلا يعرفون نقاط قوتهم ولا ضعفهم، ولا يفهمون حاجاتهم، ولا يتدبرون ترتيب أولوياتهم، ولا يستطيعون حتى تحديد قيمهم الحياتية ومبادئهم التي تقود سلوكاتهم، وما هي رسالتهم التي خُلقوا لإنجازها، كما لا يعرفون كيف لا يضيعون سنين عمرهم أمام أعينهم دون استثمارها بشكل ممتع ومفيد، ولا كيف يحققون أهدافهم في الحياة، إن حددوا أهدافهم من الأساس..

لذلك، يقعون في مشاكل نفسية داخلية ومشاكل اجتماعية خارجية دون إدراك أنّ سبب ذلك بالدرجة الأولى هو الافتقار لمعرفة (الذات)، وهذا ما يفسّر استمتاع كثير منهم بلعب “دور الضحية” وكثرة الشكوى، أو إلقاء اللّوم على شماعة ما، ومثل هؤلاء لا يتقنون في حياتهم سوى ثقافة الولولة والندب، ولا يجيدون سوى مهارة “التقاعس” والاعتماد على الآخرين في حلّ مشاكلهم..

فإن لم يفهم الشخص نفسه وتقبّلها كما هي، كيف ينتظر من الآخرين فهمه وتقبّله؟! 

ويعود عدم فهم الذات بالطبع إلى غياب مهارة هامة جدًا من المفروض أن يتمّ تعليمها منذ الصغر، ألا وهي مهارة (الوعي الذاتي)، فهذه المهارة التي تمكّن الإنسان ذكرًا كان أم أنثى من الشعور بالسلام الذاتي والتكيّف مع الظروف المحيطة بحلوها ومرّها، كما تعلّمه كيفية التعامل مع “نقاط الضغط” الكثيرة جدًا حوله، من خلال التركيز على (الحلول) بدلاً من الاكتفاء بوصف المشكلة والتذمّر وشتم الحظ والناس..

الوعي بالذات يتطلب من الشخص تحديد نمط التفكير السائد لديه، والأفكار المسيطرة عليه، وما يصحبها من مشاعر، وما تقوده من سلوكات.

والإنسان الذي يعرف ذاته جيدًا يكون أكثر قدرة في السيطرة على نوعية أفكاره، وتعديل تشوهاته المعرفية، وبالتالي يصبح أكثر دراية بتمييز المشاعر المرتبطة بها، كما بإمكانه تحديد كل ما يثير أفكاره ومشاعره، وهنا يصبح مسيطرًا تمامًا على ردود فعله في كافة المواقف، وحتى إن أخفق أحيانًا يكون أكثر سرعة في العودة لمسار التفكير الصحيح، وأكثر قدرة في علاج ما سبّبه له تفكيره الخاطىء من مشاكل نفسية واجتماعية، والأهم يكون أكثر إدراكًا متى يلجأ بالوقت المناسب لطلب المساعدة؛ لأنه يدرك تمامًا حدود قدراته وإمكاناته، وبإمكانه تمييز “علامات الإنذار” المبكرة لطرق التفكير المرهقة..

الوعي بالذات يسهّل علينا تفسير الأشياء من حولنا وإعطائها معانٍ مريحة تُسهّل علينا التواصل الاجتماعي براحة، ويقلّل من كثرة التحليل المرهق، كما يساعدنا في الحفاظ على علاقاتنا مع الآخرين المهمّين في حياتنا، ويحسّن من نوعية التواصل معهم؛ لأن الإنسان إن عرف (حاجاته) وما يريد وما يستطيع فعله، سيعرف تمامًا ما يحتاجه من الآخرين.

كما يخفّف الوعي الذاتي من الحالة الدفاعية والتبريرية للشخص أثناء التفاعل في المواقف المختلفة مع الآخرين، الأمر الذي يمنعه من اتخاذ قرارات متسرعة سواء في حالة الغضب الشديد أو الفرح الكثير، ففي كلتا الحالتين يكون اتخاذ القرار وإعطاء الوعود خاطئًا ومتسرّعًا، ومن لديه الوعي الذاتي بنسبة مرتفعة لا يفعل ذلك، فتكون قراراته مدروسة جيدًا ولا يمكن أن تكون مجرّد رغبات جامحة وعابرة أو ردود فعل مؤقتة..

الإنسان الواعي بذاته يعرف تمامًا ما يريد من نفسه ومن الآخر ومن العالم كله، ويعرف ما يسعى لتحقيقه بجلاء، وتكون طاقته الداخلية والخارجية إيجابية، كما يكون حماسه عالٍ وإنتاجيته مثمرة.

لعلّ أهمّ ما يميّز كل من لديه وعي بالذات، أنه يمتلك القدرة على الاختلاء بالنفس ولملمتها، ومراجعة الذات وتقييمها باستمرار دون أن يهدم ذاته أو يجلدها، وبذلك يتعلم من أخطائه ولا يكررها، ويصل لدرجة من القوة التي تجعله يعترف بأخطائه ويحددها، ويعتذر لنفسه أولاً ثم لكل من أساء فهمه، كما يحميه من كثرة الخطأ وكثرة الاعتذار.

وهؤلاء ببساطة ديدنهم في العلاقات مبدأ جميل جدًا يقوم على أنّ (التنازل عن قوّة هو قوّة بذاتها، ولا يعتذر ويتنازل إلاّ الواثق بنفسه)، لذلك يشعرون بالراحة مع أنفسهم، ويشعرها أيضًا كل من يتعامل معهم، وجلّ تركيزهم دومًا يكون على كيفية تحقيق الأهداف المستقبلية لا الخوف منها، ولا يركّزون على أخطاء الماضي إطلاقًا، قناعةً منهم بأنها كالميت الذي لا يعود، فلا مجال لإصلاحها بقدر أهمية عدم تكرارها واستثمارها كدروس وعِبَر وخبرات متراكمة..

والواعٍ بذاته عندما ينتقد سلوك للآخرين، يكون لديه تعريف واضح للسلوك المرغوب، فينتقد سلوك الآخر وليس شخصه، وبالمقابل من يفتقر إلى الوعي بالذات ينتقد الآخرين ويهاجمهم بصفات تكون موجودة لديه هو أساسًا ولا يحبها، ولأنه لا يدرك وجودها لديه فيعكسها على الآخرين ويسقطها عليهم، فيراها بهم وتزعجه ثم يهاجمهم، وهذا سلوك متفشّي بشدة وسبب رئيس لخراب العلاقات بكل أنواعها..

جميعنا يؤمن أنّ الكمال لله وحده، وأنّ الطبيعة البشرية خطّاءة، والأخطاء تعلمنا السلوك الصحيح وتساهم في نضوجنا وتزيد من خبراتنا، وإذا أدرك كل إنسان الجوانب التي لا يحبّ وجودها لديه، ويعرّفها بشكل صحيح ولا يشعر بالفخر في حال وجودها، سيعمل على التخلص منها أو التخفيف منها في أقل تقدير.
أما من يجهل نفسه فيموت وهو مصرًّا بأنه “أبو العرّيف” والذي لا يخطىء أبدًا، وهو من يحتكر الحقيقة وحده، فيفقد (البصيرة) ويتكرر لديه مسلسل الفشل، فيتعب نفسيا ويُتعب معه كل من يتعامل معه؛ لأنه ببساطة لا يعرف معنى “التعاطف”، بمعنى ليس بإمكانه وضع نفسه مكان الآخرين وفي ظروفهم حتى يتسنّى له تفسير سلوكهم بحكمة الواعٍ بذاته وبصيرة العارف؛ لأنّ التمركز حول ذاته هو دينه وديدنه، ويبقى يدور في فلك نفسه ولن يستطيع الخروج منه إلاّ بمساعدة إن كان راغبًا بها وجاهزًا لها..

الوعي بالذات يطوّر (المرونة) العقلية والنفسية لدى مالكه، وتكون التغذية الراجعة من الآخرين زاده وقوته نحو التطور والتغيير للأفضل، ومن المعلوم أنّ الطبيعة البشرية تأبى انتقادها وتميل نحو المديح، ولكن الوعي بالذات يمكّن صاحبه من تمييز السمين من الغثّ من الانتقادات، وترك الهدّامة منها لصالح البنّاءة، لتساعده على تقييم ذاته ومحاسبتها باستمرار بشكل مريح، مما يدفعه للأمام واستثمار كل طاقاته بأفضل الطرق وأقصرها..

الوعي بالذات مهارة إنسانية يحتاجها كل شخص في كل وقت وفي كل حين، وهي نافذة الإنسان على المجتمع وأحواله؛ لأنها محاولة لترجمة ((القلق)) الذي يلفّه بسبب ريح التسارع العاتية في كلّ شيء، وما ينجم عنه من تغيرات جينية وبنيوية وبيئية على حدٍ سواء، وهي محاولة إيجابية لتنفيس هذا القلق بعلمية وإنتاجية، دون ارتباك أو تخبّط، ودون جلدٍ للذات أو إسقاط على الآخرين..

فلا استنكر على الناس رغبة الاستمتاع بِ ((اللّغو)) في الشأن النفسي والاجتماعي، ولكنني أطالب بهامش علمي للسلوك الإنساني مقابل السائد الاعتباطي الذي لا يخرج عن دائرة الوصف، والمُتبنّى من الجميع، جماعات وفرادى، وأطالب بهامش لإعطاء العقل فرصته مع العواطف، وللتحليل مكانته مع السرد، وللموضوعية محلّها مع التسارع والفوضى السائدين..

وأخيرًا نقول أنّ ما ينقصنا حاليًا هو ((الحكمة))، تلك التي تتطور لدى الإنسان بتطوّر وعيه الذاتي المشروح هنا أعلاه، وما يساهم وجوده ببناء الوعي المجتمعي. 

والحكمة قد نكتسبها بأنفسنا وقد تكون هبة من الله تعالى كما قال في كتابه الكريم ” يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ”، فهذه الآية القرآنية من أهم قواعد السلوك الإنساني وما يرافقه من السلامة النفسية إن وجدت (الحكمة)..

أليس فيكم رجل حكيم، أليس فيكم امرأة حكيمة؟! والإجابة تكون بأنّ وجود الحكمة يرتبط بمدى وجود “الوعي الذاتي” لدى أيّ منهما..

ولمعرفة النفس وسلوكها الإنساني دومًا سيكون لنا أحاديث كثيرة وبقية… دمتم….

دة. عصمت حوسو

رئيسة مركز الجندر للاستشارات النسوية والاجتماعية والتدريب

Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found

اترك تعليقاً

Don`t copy text!