أعزائي القرّاء هل تتفقون معي أنّنا وصلنا إلى مرحلة نستطيع أن نلصق صِفة (الإنسانية) بالحيوانات لفرط مشاعرها من حُبّ وحنان وطيبة ووداعة ووفاء، ونُطلق صفة (الحيوانية) على قساوة وشراسة الإنسان ؟؟!!
اعتذر من القرّاء لبشاعة الثوب الذي سأرتديه هنا دفاعًا عن الحيوانات، ولكن في ظِل ما يحدث في الوقت الراهن من انحدار مُخزي في سلوك الناس وانحطاط مُهين في الأخلاق لا بدّ هنا من تبديل (الأوصاف) بين الإنسان والحيوان تحقيقًا (للإنصاف)..
الأخلاق والصِفات الجميلة يجب أن تكون أصيلة الطابع ومن المفترض تواجدها في جميع مخلوقات الله، للأسف الشديد بات الإنسان أسوأ المخلوقات وأشرسها وأفتك الكائنات جميعها؛ فمثلًا لا اعتقد أنّ الحيوان بمقدوره أن يأكل لحم مَن يخُصّه حيًّا أو ميتًا، عكس الإنسان تمامًا الذي يعتدي على أخيه من بني الإنسان وعلى عرضه وأرضه ومُمتلكاته وربما يفترس لحمه حيًّا كذلك، لعلّ شواهد الواقع العربي منذ (الربيع العبري) المشؤوم يشي بذلك بجلاء ووقاحة. بالإضافة إلى ذلك أن الحيوانات لها طريقة رحيمة تضرب بها فريستها قبل الشروع في أكلها؛ فما الفرق هنا بين الإنسان والحيوان إذن فكِلاهما مُفترس؟؟
أقول لكم ما هو الفرق؛ أن الحيوان يفترس ليسدّ جوعه في حين أن الإنسان يتوحّش على فصيلته حتى وهو شبعان، يعني طمع وفراغة عين ليس إلاّ. وكُلّ مُشاهد مُدقّق ومُراقب للواقع الحالي يرى بشاعة ذلك بوضوح ودون أدنى جهد..
الإنسان مجبول على فِطرة الخير والشرّ، وهو صنيع بيئته فإمّا توحّشه أو تروّضه، وقد اعتدنا على وصف أي شيء (بالإنساني) في حال اتّصافه بالسموّ والرفعة، أمّا الوسم الحيواني فاستلزم اتّصافه بالدناءة والقباحة. وعلى الرغم أن تجربتنا مع الحيوانات جميعها أثبتت لنا بالدليل القاطع أنّها وفيّة ومُخلصة وخاصّة (الكلاب)، فلا يعتدي بعضها على بعض دون وجه حقّ طمعًا في المناصب والمكاسب أو أيّ مجد، إلاّ أنّنا ما زلنا نشتم بعضنا بسِمات الحيوان وأسمائها، اعتقد أنّنا الآن بحاجة إلى تغيير تلك الأوصاف عدلًا وليس حقدًا تحقيقًا للإنصاف.
من المفروض أن تكون الشتيمة بين الناس حاليًا (تبًا لك أيّها الإنسان)، أمّا المديح يجب أن يتحوّل إلى (شكرًا لك يا حيوان). كيف لا نفعل ذلك ووصلنا إلى مرحلة كشفت لنا أن الإنسان يسرق من الحيوانات أخلاقها وينسبها لنفسه، ثم يتنكّر للحيوانات وينزع من نفسه أقذر ما فيها ويلصقها بالبهائم ؟؟!!
علينا الآن أن نحصر (النُّبْل) بأنّها سِمات حيوانية، أمّا الغيرة والحقد والغدر والمكر والنفاق والقذارة والنذالة والخيانة، وهناك على شاكلة هذه الصِفات يوجد الكثير الكثير، عدّد بلا حرج، فهي صنيعة الإنسان وحصريّة له (وحده) للأسف الشديد.
باتت الإنسانية الآن قاب قوسين أو أدنى قريبة جدًا من التلاشي في هذا العالم المتوحش، والبني آدم – إلاّ مَن رحم ربّي – قد حاد عن نهج الإنسانية (المزعوم) وسلك سبيل الغواية والضلال واتّهم الحيوانات بها وهُم بريئون مِنها؛ صحيح أن الحيوان لا يملك نعمة العقل – والعقل زينة – ولكنّه يملك المشاعر والأحاسيس الفطرية الغريزية الرحيمة، تلك التي تفوق في حجمها ما لدى (بعض) البشر الذين وصلوا لمرحلة البهيمية إلى حدّ يذهل الحيوانات والبهائم ذاتهم.
لماذا نصِف الإنسان الغبي (بالحمار) على الرغم أن الحمار من أفضل مَن خدم الإنسان وتحمّل قساوته وحمل أشياءه الثقيلة؟؟ بات الحمار المسكين مركوبٌ مذموم وخادمٌ مضروب، وفي الوقت الذي يقوم الحمار بعمله يجد الإنسان الغبي مَن يخدمه !!
لماذا نصِف الإنسان المكّار والمُخادع (بالذئب أو الثعلب) وهو قد فاقهما بذلك، على الأقل الذئاب والثعالب تغدر عندما تجوع ليس وهي شبعانة !!
لماذا يقول العرب “أحقد من الجمل” ونحن نرى الإنسان الجالس فوق ظهره قد فاقه في حقده وفي رغبته بالثأر والانتقام؟؟
لماذا نصِف الإنسان “بالتيس” ذلك الحيوان المشهور بسذاجته وقِلّة نباهته وجريه خلف القطيع ونحن نرى قطعان البشر تنقاد بتبعيّة مُذلّة كالإمّعة ؟؟
لماذا نصِف الخراب (بالبومة) وهي لم تفعل ما فعله الإنسان من التخريب والفساد والإفساد والغيبة والنميمة وشحن الناس على بعضها ؟؟
لماذا نصِف مَن ينفث بسُمّه بإصابة دامية ويتهجّم دون دليل أو مُبرّر ويغتال الآخر ويتراقص ويتلوّى على فريسته (بالأفعى) على الرغم أنّها لا تقترب من النائم وتمر من جنبه بسلام؟؟ أمّا أفاعي البشر فقد طال سُمّهم الغافلين والغافلات في حال الصحوة أم النوم لا فرق. وينطبق الشبه ذاته على العقرب؛ فالعقارب الآدمية لدغتها تشلّ الحركة في أحسن الأحوال وقد توصل القبر في أسوأها.
وفي المقابل، نصِف الشجاع بالأسد رغم أنّه شهير بالكسل وكثرة النوم واللبؤة هي الأقوى !!
كثيرة هي الأمثلة التي توصلنا إلى الاستهجان من سلوك الإنسان الذي فاق ما هو معروف عن الحيوان.
أليس من الإجحاف ومن المُعيب في ذات الوقت في حقّ الإنسان بتقزيمه واختزاله لمرتبة الحيوان وقد تفوّق عليه بمراحل بالصِفات الحيوانية المعروفة ؟؟ الإنسان نفسه اختار أن يكون حيوانًا معدوم المشاعر؛ فنسي بذلك أن ينتمي لأُمّة أساسها الإيثار، ولكن الأنانية والنرجسية أعمت قلبه وبصره قبل بصيرته. مرة أُخرى إلاّ مَن رحم ربي وهُم قلائل جدًا..
لا تشتموا الحيوان بالإنسانية ولا تمدحوا الإنسان بالحيوانية؛ مطالبنا اليوم معكوسة ومُختلفة عن السابق فنقول “الرفق بالإنسان أيّها الحيوان”. وبناءً على ذلك وللخروج من هذا الوضع القميء نقول؛ إن أردنا أن نزرع لمُدّة سنة علينا أن نزرع قمحًا، وإن أردنا أن نزرع لعشر سنوات علينا أن نزرع شجرة، أمّا إن أردنا أن نزرع لمئات السنين ونجني الحصاد ممّا نزرع فعلينا أن نزرع إنسانًا برشّ بذور الخير في قلوب أبنائنا وبناتنا، لعلّ الجيل الجديد يُعيد مسار البني آدم نحو الإنسانية.
أختِم بمقولة للكاتب الروسي الرائع فيودور دوستويفسكي “أيّها الإنسان، لا يحملنّك كبرياؤك على التعالي على الحيوانات، فهي بلا خطيئة، أمّا أنت فإنّك مع عظمتك تُدنّس الأرض بوجودك وتُخلِفُ أثرًا نجسًا حيث تمرّ”..
أصلنا جميعًا من التراب وللتراب سنعود؛ فكُلّ الأرض بلادنا وكُلّ العالمين أقاربنا، وفي كُلّ حديث سيبقى لنا بقية…. دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found