لا تكمن القوّة في حجم الجسد، ولا حجم الحساب البنكي، ولا حجم الاسم الأخير؛ وإنّما تكمن في (حجم الإرادة) التي لا تُقهر، تلك التي تقود إلى “حجم” كبير من (الإنجازات الفعلية) التي تصنع تغيير حقيقي على أرض الواقع، وتترك “بصمة” عميقة الأثر وطويلة المدى، لا تلك الكرتونية “المنفوخة” كبيرة الحجم على فاشوش، مثل أسد السيرك تمامًا..
هؤلاء الذين يرون حجمهم كبير ويحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم، وذنوبهم دومًا مبرّرة ومغفورة، يملكون “ذوات متضخّمة” حدّ الانفجار، ونشهد نتائج كبرتهم على مصائر الشعوب ومَن يرزخون تحت نفوذهم، فاستطاع هؤلاء الذين يؤمنون بِ (نظرية الأحجام) إيجاد مبرّرات لأنفسهم لاكتساح المجتمع ظلمًا وبهتانًا، وممارسة السلوك العنجهي المتكبّر ضد آخرين، فأمسى “الاستقواء” شعارهم، فلا خيار بينهم وبين الآخر، فإمّا مع أو ضد، لا خيار آخر إطلاقًا.
مثل هؤلاء من (أسود السيرك) نجدهم حولنا بكثرة؛ من السياسيين، والإعلاميين، والمثقّفين، والأكاديميين، وأصحاب العمامات، وتجّار الدين، وربما مواطنين عاديين، وهناك نكرات غيرهم متوافرون بكثرة ممّن يتميّزون بالكبرة الفاشيّة والعنجهية الفارغة، كما يتميزون بِ (الحذلقة الفكرية) أيّ التلاعب بالأفكار لأجل التمويه، وإجادة “صناعة الكلام” المعسول مع قلّة الأثمار والنتائج..
لعلّ وضع العرب اليوم يشي بتكاثر الذين يرون حجمهم أكبر منهم، فالواقع شاهد على مَن يلبسون لبوس الكِبَر، ويتشدّقون بنبرات الاستعلاء، ويتحدّثون بلغة جبروتية، ويدّعون أنّ قولهم هو الفصل، ويعتقدون أنّهم يملكون ناصية الأمّة..
وعليه، نخاطب هنا الذين يؤمنون بنظرية الأحجام، ويعتبرون أنفسهم الأفضل، ومصابون بداء (الاستحقاق)، ما هي إنجازاتكم الحقيقية على أرض الواقع الذاتية والمجتمعية على حدّ سواء؟! ما هي إسهاماتكم وإضافاتكم النوعية للعلم أو لسوق العمل؟!
أخشى أن تكون إنجازاتكم مجرد فقاعة لا تتعدّى قيمتها معدل حاصل الضرب في صفر!! وغالبًا هي كذلك..
الإنجاز يا سادة هو (الأرشيف المدلولي) لهوية المرء، وتتمخّض ذاته من خلال مفاهيمه السلوكية المتأصّلة في ذاكرته كإرث وجودي، ويدلّل الأخير – أي الإرث – على انصهار الذات في واقع المجتمع، وتأسيس حصيلة من الإنجازات التي ترتقي بذاته وبجميع الذوات الاجتماعية، لا التكبّر عليهم وإنّما الكَبَر معهم وبهم..
شيوع “نظرية الأحجام” عند الأغلبية هو نتاج حالة متورّمة بقيح الفساد، ومرحلة حبلى بالإخفاقات والتراجع على جميع الصعد، فرضتها علينا تلك (الذاكرة الإقصائية) التي مورست على الجميع على مدار عقود متلاحقة، راكمت داخلها أحقيّة الأقلية “متضخّمة الأنا” أمام الأغلبية المسحوقة المحرومة من كل شيء والمغتربة عن كل شيء.
ثقافة هؤلاء الجموع تسعى دومًا لنفي الآخر والتقليل من شأنه، وعدم الاعتراف به، وفرض الهيمنة والفوقية والتعالي عليه، الأمر الذي يُفرغ الإنجاز من قيمته التي نراهن عليها كمحصّلة مستقبلية، وهذا يؤكّد حقيقة (الذهنية الهشّة) التي يعاني منها المجتمع المبني على ثقافة الأحجام، والذي يعيد إنتاج نفسه باستمرار للأسف الشديد؛ لأنّه لا يمكنه إلاّ (توريث) ثقافة رجعية “تنحاز” للأقلية المتضخّمة، لا للعقل والتطور والإنجاز، وهذا المنحى الخطر الذي غالبًا ما يتبنّاه المجتمع العربي، والذي خدش سمعته في الكثير الكثير من الحالات، وجعله غير قابل لا للتوجيه ولا للانتقاد، فبقي إمّا يراوح مكانه أو يعود للوراء، أمام سرعة التقدم والتطور في المجتمعات الحديثة التي تعتمد على الإنتاج والإنجاز أكثر من اعتمادها على : (إنت مين، أو مش عارف مين أنا، ولا حتى اعرف مع مين عم تحكي)!!!! والباقي عندكم..
الإرادة غير المتحكم بها، تقذف بصاحبها إلى مناطق الخطر والمجهول، ومن الممكن أن تورطه في نزاعات وصراعات لم يخبرها ولا يتوقعها، وبالمقابل، يمكنه أن يجسّد طموحاته وتطلعاته ويبلورها بما يتوافق مع إمكاناته ومهاراته التي يختزنها في ذاته.
ومَن يصل لمرحلة غرور الحجم يكون في الحقيقة قد ارتدى قناع “التخفّي” لإخفاقاته النفسية وإسقاطاته الاجتماعية، ليثبت ذاته من خلال “وهم التفوّق” على الآخرين، وغالبًا لا يكون هذا التفوّق مبني على الإنجازات المؤثّرة في المجتمع، وإنّما يعتمد على تعابير وسلوكات فيها الكثير من (الاستخفاف والمزايدة) على إنجازات الآخرين. هذا هو الواقع العربي المرير، وكاسك يا وطن..
الإرادة القوية التي تطوّر قدرة التغلّب على الصعاب وحلول للمشاكل وتحقيق الأهداف هي التي تصنع التميّز على الآخرين وتحافظ عليه، فأيّ شيء آخر قابل للزوال، باستثناء الإرادة التي تخلق النجاح وتخفّف آثار “صفعات الزمن”، فالقوة أيها الأسود السيركية تكمن في (الإرادة) فقط، تلك التي لا تتحسّس موضع الصفعة حتى لا يلحظ ألمها أحد..
كثيرون مَن يسقطون غرقى وهم يسعون للإنجاز والنجاح أثناء إبحارهم في سفينة الحياة، فلا يصلون لكنز الإنجاز، أتدرون ما السبب؟! ببساطة شديدة لأنّ الإنجاز الذي لم يكن في بدايته (احتراق) لن تكون نهايته (إشراق) البتّة، فالنجاح لا يتطلّب عذرًا، والفشل لا يترك أيّ مبرّرات.
فلا تفاخر بجمالك أو أصلك وفصلك والترّهات التي توهمك بكبر حجمك، فلست أنت صانع أي شيء من هذا يا هذا..
لا يمكن في أيّ حال من الأحوال أن تجتمع ثرثرة اللسان بسبب “وهم الحجم” مع ثرثرة العقل والفعل؛ لأنّه من المعلوم أن كثيري اللغو هم قليلي الإنجاز في ذات الوقت، فما بين (البرم) والفعل علاقة عكسية، لذلك يعتبر التخلّف غالبًا “قرين الثرثرة” بنظرية الأحجام التي تتميّز بِ (السيلان اللغوي)، والتحضّر “قرين الإنجاز”، وشتان ما بين القرينين..
تذكروا جيدًا أنّ ما من أحدٍ (تعاظم) على من دونه إلاّ بقدر ما (تصاغر) لمن فوقه، ونحن بحاجة اليوم إلى “النماذج” لا كثر البرامج، ونحتاج إلى الإنجازات النبيلة لا وعود الإنشاء الطويلة، ويحتاج الناس إلى رؤية الأفعال النموذجية في كل مجال وقطاع، لا مجرّد الاكتفاء بالسمع عن نظرية الأحجام لأسود السيرك.
ذلك فقط ما يعيد للناس الثقة بأنفسهم وببعضهم وفي المسؤولين، وذلك ما يخرجهم أيضًا من حالة (اللامسؤولية) النفسية والاجتماعية، ويفرض عليهم كذلك واجب الانخراط عن حب وبحبّ، والتضحية عن رضا وبرضا، للمساهمة في الإصلاح الذاتي والجماعي للبلاد والعباد، هو (النموذج) فقط الذي بإمكانه أن يصنع المعجزات، لا الحجم ولا الثرثرة، وهو فقط الذي يقطع الطريق على خفافيش الظلام في ضعضعة الاستقرار أو خلخلة الأمن أو تفكيك النسيج الوطني..
ليست الألقاب ولا المناصب ولا الأحجام التي تمنح المجد، المرء مَن يمنحها القيمة وليس العكس، المجد والنجاح يُكتسب ولا يُمنح يا كرام، بالأفعال والإنجازات اليسيرة لا بالثرثرة الغزيرة ولا حتى بنظرية الأحجام المريرة.. وهيهات..
ابحثوا في “قاموس النجاح” عن الإرادة، فهي مكمن القوة والنضوج، أما كلمات (لو ولكن) لن تجدونها فيه أبدًا، وحرية الاختيار والقرار يعود لكم حينها..
وحتى ذلك الحين، لا مناص أمامنا أن يبقى لنا من هذا الحديث قصة أخرى وبقية… دمتم…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found