كانت العصور السابقة تُقاس بالقرون والعقود، أما الآن، بفضل الثورة الصناعية الرابعة، فأصبحت تُقاس بالأشهر وربما الأيام، وقد نشهد في المستقبل القريب قياسها بالساعات، كيف لا وجميع هذا الزخم التطوري المتسارع لشبكة “الإنترنت” وتداعياتها الهائلة أوجدت ما يسمى بِ (الثورة الرقمية الأولى)، فهل ستشهد تلك الثورة الأولى ثورات أخرى وتصل للرابعة وربما العاشرة بفضل تسارعها مقارنةً بالوقت الذي استغرقته سيرورة الثورات الصناعية الأربعة وصيرورتها؟! وهل سيشهدها هذا الجيل بحكم وحدة قياس الزمن الحالي المتسارع بالأشهر والسنين؟! الرقمي
تسارعَ تغلغل العصر (الرقمي) إلى حدّ التشابك مع الحياة اليومية في جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية، فتطورت التكنولوجيا الرقمية بشكل ملفت للنظر لامس حياة الإنسان بعمق، الأمر الذي أوجد أمامه تحديّات كثيرة، وحاجة ملحّة جدًا لدراستها وفهمها، للتخفيف من شدة تأثيرها “السلبي” في ظلّ عدم (الجاهزية) المناسبة؛ لأنه من المفروض أن تسير الأخيرة مع التطور الرقمي بشكل موازٍ ..
ويقترن تغلغل العصر الرقمي بتغيرات مستقبلية في جميع مجالات الحياة، لا سيّما في نمط العمل وأساليبه، نظرًا للاستخدام المتطور للتكنولوجيا الرقمية السريعة جدًا وتكاثر تطبيقاتها، لذلك تزايدت الحاجة لامتلاك (مهارات) جديدة تواكب حداثة هذه التكنولوجيات، وتطويرها باستمرار على مسافة زمنية تتناسب طرديًا مع سرعتها، كل ذلك وأكثر من أجل تحويل عملية التعلّم “النمطية” إلى عملية (تعلّم مستمرة) تمتدّ بامتداد الحياة، حتى يتمكن الإنسان في هذا العصر من مجاراة الابتكارات المستمرة والتطورات الجديدة في العالم الرقمي، وبخلاف ذلك سيتخلّف المجتمع العربي عن اللحاق بركب المجتمعات الرقمية المتطورة، تلك التي قطعت مسافات رقمية طويلة تفوقنا بزمنٍ لا بأس به، والجميع يعلم أنّ الوقت كالسيف إن لم نقطعه قطعنا وقطع صلاتنا بالعالم الحديث “رقميًا”..
بات من البديهي اليوم إدراك أنّ الحصول على المعلومة سهل جدًا، وكذلك الأمر في سرعة الوصول لها في هذا العصر الرقمي، ولكن ليس هذا هو المهم فقط؛ وإنما ما يهمّ حقيقةً هو معرفة (الكيفية) في العثور عليها، والأهمّ فعليًا هو (التحقّق) من موثوقيتها ووجود القدرة والأدوات اللازمة لتقييم “جودتها”..
لا يكفيك أيها المواطن أن تتقن اليوم استخدام التكنولوجيا، فأنت بذلك تعتبر (مواطن رقمي) فقط، وحالك حال كثير من المواطنين في المجتمع العربي، وإنما المطلوب منك حاليًا امتلاك “المهارات الرقمية” وضرورة التدريب عليها؛ لأنها أضحت هامة جدًا لجميع الأنشطة الحياتية، والدليل على ذلك يتجلّى بأمثلة كثيرة مرتبطة أشدّ الارتباط في الحياة اليومية، نذكر منها هنا على سبيل المثال لا الحصر: حجز تذاكر السفر مثلًا، أو حجز مواعيد الأطباء كذلك، وإجراء الخدمات البنكية والمصرفية أيضًا، وغير ذلك من احتياجات المواطن المستمرة، ورغم ذلك لا يتقن أغلب المواطنين هذه النشاطات الرقمية، أو بالأحرى قد لا يتقنون استخدام “جميع” تكنولوجيا العالم الرقمي في أقل تقدير.
وهنا يبرز السؤال الهام جدًا الذي يتطلب من المسؤولين الإعداد والتحضير للإجابة عليه، وبسرعة لا تحتمل ترف الوقت والتقاعس، فكيف بإمكان المواطن تطوير مهاراته الرقمية اللازمة لضمان شموله في المجتمع الرقمي المتنامي وحصوله على المنافع الرقمية؟! هل نملك الإمكانات والجاهزية لذلك؟! وإن وُجِد مَن هي الجهة المسؤولة عن (التعليم المستمر) في المدارس والجامعات والمؤسسات؟! وهل هناك مؤهلين/ات لتدريب الطلبة والموظفين/ات المستمرّ على مواكبة العالم الرقمي والتكيّف مع تطوره المتزايد؟!
ومن الضروري جدًا التذكير عند طرح مثل تلك التساؤلات أثناء مناقشة هذا الموضوع الهام، بأنه لم تَعُدْ – في أي حال من الأحوال – العملية التعليمية، ولا أساليب العمل، ولا القوانين، ولا المؤسسات البيروقراطية وغيرها، قادرة على (الصمود) إن بقيت ساكنة، ولم تنمّي دينامياتها الرقمية وتماشت مع العصر الرقمي الحديث..
وفي إطار حديثنا عن “المهارات” التي يحتاجها المواطنون اليوم، لا بدّ لنا من ذكرها، وهي تندرج ضمن تصنيفين، الأول يُعرف بِ (المهارات الرقمية) والتي تعني جميع المهارات التقنية اللازمة لإتقان استخدام التكنولوجيات الرقمية والاستفادة من رفاهيتها وميزاتها كافة وما تقدمه من خدمات، أما التصنيف الثاني الذي يُوسم بِ (المهارات الأبدية) والتي تشير إلى مهارات “الملاحة الرقمية”، وهي التمتع بمجموعة أوسع من المهارات التي تتطلب النجاح والصمود في العالم الرقمي، وتشمل مهارات اكتشاف المعلومة وفن العثور عليها، والقدرة على ترتيب المعلومات حسب الأولوية، ومهارة التأكد من صحة المعلومة وصدقها، بالإضافة إلى ضمان جودتها وموثوقيتها.
هذه المهارات الأبدية لا تختلف كثيرًا عن المهارات “القديمة غير الرقمية” التي كانت وما زالت ضرورية حتى هذا اليوم، وفي خضمّ العصر الرقمي، ولكن يحتّم علينا التطور التقني والرقمي (ترجمة) كل ما هو قديم بلغة رقمية حديثة، لتسهيل استخدامها في سياق رقمي متناغم مع لغة العصر..
المطلوب اليوم هو تطوير (ذهنية رقمية) جديدة تناسب المجتمع والعالم الرقمي، ذهنية قادرة على إدارة المعرفة، وإدارة التغيير، وقادرة على أن تكون إدارة نشيطة، بسرعتها في الاستجابة ومرونتها في التعلّم مدى الحياة، لا التوقف عن الاستزادة العلمية والتدريب المستمرّ، مهما علا مستوى الدرجة العلمية، وبعيدًا أيضًا عن الإصابة بِ (داء العظمة) الذي يُصاب به بعض الحاصلين على الشهادات العليا (الورقية) والمفتقرين للمهارات (الرقمية)!!
ومن المهارات الأخرى الضرورية الآن هي تطوير مهارة (التعلّم الذاتي) والاستمرار في التعلّم، أما التمييز بين السمين والغثّ في التكنولوجيا الرقمية فتعتبر أمّ المهارات وأهمها؛ لأنها تمكّن الشخص من رسم الحد الفاصل بين ما هو مفيد ويناسب ثقافته وخصوصيتها، وبين تمييز متى لا تكون بعض التكنولوجيا مفيدة، وتلك المهارة لا يمكن لها أن تتطور عندما تغزونا التكنولوجيا الرقمية دون (جاهزية) عالية، ودون أدوات تليق بها.
أما المهارة الأخيرة المطلوبة اليوم تسمّى بِ (المهارات الناعمة)، والتي تزوّد الإنسان بمهارات “التكيّف” اللازمة مع الثقافات المختلفة ومكوناتها الحضارية المتعددة..
اعتقد ما ورد هنا أعلاه يبتعد كلّ البعد عن أنظمة التربية والتعليم وطرائق عمل المؤسسات الحالية، وربما يصل حدّ النقيض؛ لأنّ تلك الأنظمة ما زالت تعمل وفقًا للمقاييس “الكميّة” المستندة إلى (تقييم الأداء) فقط، ولا تأخذ بالحسبان “المهارات الناعمة” الضرورية في العصر الحالي، والتي تمكّن الناس من استسهال العمل في الوظائف الرقمية، والقدرة على التعامل مع كافة الثقافات وكل المجتمعات..
العصر الحالي يفرض علينا التغيير، فلا خيار آخر أمامنا، وبدلًا من مقاومته وإضاعة الوقت والجهد والتكلفة لا مناص أمامنا سوى التكيّف معه، والتمييز بين استخدام التكنولوجيا من أجل عملية (التعلّم) المستمرة، وما بين (تعليم) كيفية استخدام التكنولوجيات، الفارق بينهما كبير جدًا.
العالم الرقمي يتطلب مرافقة (التدريب) جنبًا إلى جنب مع (التعليم)، فلا يمكن الفصل بينهما على الإطلاق في العصر الرقمي الحالي، فهذه المقاربة الشمولية ما يضمن رفاهية المواطن في العالم الرقمي؛ لأنها ببساطة تحفّز الدماغ على المطالبة في “الأسئلة” بدلًا من الاكتفاء بطلب “الأجوبة”، فتلك فقط سُبُل التعلّم المستقبلية القادمة لا محالة، تجهزوا لها وذلك أضعف الإيمان..
كثيرة هي النصائح المطلوبة في العالم الرقمي، وكثيرة هي الجهات المستهدفة التي تحتاجها، ونكتفي هنا بتوجيه النصيحة للأهل و(مقدّمي الرعاية)، بضرورة التنبّه إلى الاستخدام المتزايد للتطبيقات الرقمية في الواجبات المدرسية، فإن رأيتم الهاتف الذكي وغيره من الأجهزة الذكية بأيدي أولادكم وبناتكم، فهذا لا يعني عدم اهتمامهم بواجباتهم، بل يقومون بها في حالات كثيرة من خلال تلك الأجهزة الرقمية، والانتباه لذلك يخفّف من حدّة المشاكل بين المراهقين/ات وأهلهم، كما أنّ استخدامهم لها يوفّر لكم فرصة تعلّم المهارات الرقمية بطريقة غير مباشرة من خلالهم، فانخرطوا معهم وتعلّموا منهم فذلك أجدى لكم ولهم بدلًا من كثرة التذمّر والشكوى، والاكتفاء بمشاعر (الإقصاء الاجتماعي) في مجتمع الجيل الرقمي.
عدم مجاراة التغيرات السريعة في التكنولوجيا، ورفض ركوب الموجة أو التباطؤ بها، يعطّل عملية التربية والتعليم والعمل المنتج والتطور، ويضيّع كثير من الفرص ذاتيًا ومجتمعيًا، ولكم القرار.
والمسؤولية هنا تشاركية، فلا تقع على عاتق الحكومة وحدها فقط، وإنما تتطلب إجماع عام بين جميع القطاعات العام والخاص والجهات المزوّدة للتربية، والعمل جنبًا إلى جنب لتحقيق المزيد من المهارات الرقمية والسير باتجاه الانخراط المجتمعي نحوها، بحيث يتمكّن كل مواطن رقمي أو متعلّم فردي مهما كان سنّه أو تخصّصه أو خلفيته الاجتماعية والثقافيه، من الوصول إلى فرصة التعلّم والتدريب الرقمي، لتطوير المهارات الرقمية اللازمة والاستمتاع بالمنافع التي تقدمها التكنولوجيا الرقمية..
وأخيرًا نقول بأنّ كل إنسان على وجه الأرض معنيًا بمواكبة (التطور الرقمي)، ولا يمكن أن ينأى عنه أو يعيش بمعزلٍ عنه طويلًا؛ لأنه سيسخّر للبشرية جمعاء أساليب ذكية وغير مسبوقة للتعلّم والتدريب والعمل والإنتاج والتجارة وكل شيء، وسيحدّد ملامح الاقتصاد والحياة الاجتماعية الحاضرة والقادمة..
ونختم بأهم عناصر القوة في العصر الحديث، (المرونة)، تحلّوا بها وأتقنوها، وحدها من يمنحكم مهارة التكيّف مع مستجدات الحياة جميعها، وهي متطلب أساسي للنجاح، والأخير يعتمد على المعلومات المتوافرة، وعلى العقل “المَرِن” الذي يصنع القرارات، فاصنعوا قراراتكم بما يتماشى مع العالم الرقمي، وبما فيه مصلحة الوطن والمواطنين…
وحتى ذلك الحين، سنعود لكم بحديثٍ آخر وبقية… دمتم…
تحيه طيبه ممكن الاستفاده بتصميم برامج رقميه وتدريب الناس عليها