قلتَ لي في آخر أشعارك غداة آخر عام بدأته معي: “وإني وإن ضاقت فأنتِ حربتي، وإني وإن غابت فأنتِ عصمتي، وإني وإن شُحّتْ عليّ مسافتي وخاصمني ربي فأنتِ جنّتي، أحبك بنت العم يا أصل الحلا ويا كلّ كلّ الأهل أنتِ حبيبتي”… محمد الحباشنة
ردّي على كلماتك كنتَ قد سمعته مني في ذاك الوقت، أما ردّي بعد أن تمعّنتُ بها بعد رحيلك وكأنك كنت تودعني حينها فأقول لك عساك تسمعني الآن يا موطني: لو كان البحر مدادًا لكلماتك لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلماتك ولو جاءوا بمثلها مددًا، أنت ذهبت واستحالة المآل وبقيت لي كلماتك وذكرياتك بعطر الياسمين.. محمد الحباشنة
غدت أيامي مُرّة متشابهة، وبات الليل موحشًا جدًا، فقد تركت القلب يُدمي مثقلًا تائهًا في الليل في عمق الضباب، وإذا بي أطوي وحيدة حائرة أقطع الدرب طويلًا في اكتئاب، ويأتي الليل موحشًا تتلاقى فيه أمواج العذاب، لم يعد يبرق في ليلي سنا فقد توارت كل أنوار الشهاب، وخلت الأماكن من معانيها ثم توقف الزمن عند رحيلك، وبتُّ أعيش على ذكرى سنيننا معًا وإن كانت قليلة، لكنها كانت غزيرة بالحُبّ ومليئة بالسعادة وتفيض بذكريات تفوق عقودًا من العِشرة لأزواجٍ غيرنا. فقليلٌ منك يكفيني وقليلُك لا يُقال له قليلُ…
مرّت سنة يا موطني؛؛ سنة ثقيلة مُعتمة بنكهة مُرّة لاسعة بحرارة الفقد، فلم أفقد الحُبّ فقط وإنما فقدت أيضًا تلك القوة من زوج طوقتني بحنان أب ودفىء صديق وأمان وطن؛ هي قوة ذلك الرجل الذي أجّج أنوثتي بصخب رجولته وحُبّه الآسر، فشعرت باليُتْم العاطفي منذ رحيله، وعانيت قساوة الغربة ومرارة الوحدة وحرارة الغياب لفرط ما راكمتُ في هذه السنة سنوات من الحزن والوحدة والمرار. وعلى الرغم أنه وعدني أن يكون ما بيننا أبدي ولكنه نسي أن يخبرني قبل أن يرحل أهو حبه أم وجعي.. محمد الحباشنة
إن جذوة فجيعتي برحيله المفاجىء تتوهّج من جديد كُلما مرّ طيفه أو لاحت ذكراه، باغته على حين غرّة ذلك الزائر الفُجائي كعادته دون موعد أو سابق إنذار وهو في ذروة عطائه، فقهقه له للخلاص من كدر الدنيا، فارتاح هو وبكينا جميعًا بحسرة موجعة وألم الفراق، فأرداني موته المُباغت مشلولة متجمدة بين مرحلة الإنكار والغضب، فهل سيأتي ذلك الوقت لأتقبّل هذه الحياة الجديدة ومكانه خالٍ ؟؟؟ غادرتنا مبكرًا جدًا يا محمد وأنت في زهو الشعر وربيعه، لربما سيهطل من هناك وردًا وغناءً لوطن ظامىء للغزل…
اسمح لي يا حكيم ويا زوجي وتوأم روحي بعد مرور سنة كاملة من غيابك مليئة بالحسرة والألم والوجع وغربة الوطن لرثائك، على الرغم أن الكلمات دائمًا تقف حائرة أمام هيبتك فقد كنت سيد الكلمات وفارس البلاغة، وعيون الأحرار ممن أحبوك وعرفوك وخبروك وأدمنوك أمضى من كل قول لأنك عربيّ اليد والفم واللسان حدّ النخاع….
أرهقني جدًا مشهدك وأنت جاثم على سرير الموت مع أني أحببتك وأدمنتك في جميع الأحوال، فقد اعتدت عليك دومًا في وضعية الوثوب؛ فكنت مسدس عربي أردني فلسطيني عراقي مصري سوري لبناني يمني ليبي جاهز دائمًا ومسحوب الديك، ينفلت دون عقال عند أية قضية ترى فيها الحق (صائبًا كان أم أقل صوابًا). ولمن يهوى عِشرة الأسود فقد ساءه الحظ مع غياب محمد، ومن لا يحُبّ محمد فهو يكره في نفسه الجود والشجاعة ولا يعشق الحرية والكرامة..
هذا الرجل استفاض من الدنيا صعودًا وهبوطًا، متعة ورهقة، وقد عصرته الحياة وعصرها حتى زهد العصير، أرهقته الثنائية المتناقضة من ميراث ثقيل من المجد ويوتوبيا الوحدة القومية. أسعفته أشعاره وكلماته إلى حين حيث استخدمها لتشتيت آماله القومية الضاجّة وهاجس فلسطين وجع الخاصرة فطالما استفاقت عليه جراحاته، وأدرك هزلية الموقف، وعبثية النهوض والنضال، وغموض البوصلة وتيهها نحو العدوّ الحقيقي. خلع منكّهات الحياة من فمه واستسلم للموت ليتذوق هو الحقيقة الوحيدة المطلقة ويذيقنا نحن مرّها… محمد الحباشنة
كان يُحِبّ أشعار المتنبي جدًا واعتبره أنه غار في النفس البشرية والسلوك الإنساني قبل فلاطحة العلوم النفسية بمسافات طويلة. ومن أحب الأبيات الشعرية له وكان يبوح به عندما يُخذل أو يُصدم وما أكثرها تلك المواقف:- “ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدوًا له ما من مودته بُدُّ”…
قِرّ عينًا يا زوجي وتوأم روحي فلن تفتحها بعد الآن على عدوٍ أو لئيم فقد أراحك الله منهم جميعًا. مدحوك أو ذمّوك، رثوك أو هجوك، ذكروك أو نسوك، خلّدوك أو خلعوك، حفظوك أو خانوك، فضحوك أو ستروك فأنت نظيف السريرة والضمير والعروبة..
دامت ذِكراك فقد أوجعتنا بغيابك وعلى مثلك تبكي البواكي يا حكيم الأحرار…
هذه نفثة من صدري كتبتها بمداد المحبة على الرغم أن حُبّك لا تكفيه حروف الأبجدية ولا حتى كل اللغات، وإن شئت أن أبكي دمًا عليه لبكيته ولكن ساحة الصبر أوسع. لعلّ الكلمات تُنسيني زرقة الكدمات التي خلّفها رحيلك، ولعلّ الأقلام تكفي ما بي من حزنٍ وشجنٍ، وليت الأيام تُنسيني ما عانيته من ألمٍ ومن خبرات صادمة بعد رحيلك..
سأحافظ على وعدي وسأبقى كما أحببتني وكما عهدتني (امرأة حرّة) قوية صامدة، وسوف أمضي مثلما كنت تلقاني في وجه الصعاب، وسوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا يرتضي ضعفًا بقولٍ أو فعلٍ أو جواب..
وستبقى الحُبّ الذي انكسر قلبي بفراقه وخيّم عليه الحزن بألوانه، فكل شيء جميل لن يُمحيه ألم الصدمات وأثر الكدمات أو طول السنين…
أنتٓ وأنا تطابقنا بمسافة مداها التاريخ ووحدة وشائجها كل شيء، فنحن توأمة بجينات متطابقة، وطِنان من رحمٍ واحد، ونحن معًا ننتمي للأردن كما ننتمي لفلسطين وكلّنا فخر؛ فأنّى أن ينزعوا منّا حُبّ أحدهما… محمد الحباشنة
الله يرحمك ويغفر لك يا حكيم الأحرار، أيها الطبيب الإنسان، نعم خسر الوطن قامتك العلمية وهامتك الوطنية وهيبتك الفكرية ولكن؛؛ خسارتي أنا كانت الأكبر فقد كنت زوجًا وأكثر…
زوجتك
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found