صدق الغزالي عندما قال: “ذو اللسانين من يتردّد بين متعاديين، ويكلّم كلًا بما يوافقه، وقلّ من يتردّد بين متعاديين إلاّ وهو بهذه الصفة، وهذا عين النفاق”.
يخلط الكثير من الناس بين (مهارة) الذكاء الاجتماعي (وآفة) النفاق الاجتماعي، لدرجة اعتبارهما وجهين لعملة واحدة، وهذا خطأ شائع يحرم معتقديه من تطوير تلك المهارة لصالح تطوير آفة النفاق الاجتماعي؛ تلك الآفة النفسية الاجتماعية التي أنهكت الجسد العربي وأرهقت عقله وشرذمت طاقاته على حساب الكرامة الإنسانية: رأس مال الإنسان..
النفاق الاجتماعي يعني (التلوّن)، فيبدي الشخص رأيًا خلافًا لقناعاته ومغايرًا للحقيقة، ويستخدم (الماسك) المناسب حسب الموقف لتحقيق منفعة ذاتية قصيرة المدى على حساب القيم والمبادئ والمعايير الأخلاقية، فهو يعكس بذلك مظهرًا سلوكيًا منحرفًا عن شخصية الإنسان العربي السويّة. بمعنى آخر؛ تغليب المصلحة الذاتية على المصلحة العامة.
تتفشّى آفة النفاق الاجتماعي بشكل مّطّرد عند الشعور (بالدونية)، فيعرّف الشخص نفسه من خلال الآخر (المهم)، للتخلص من عقدة التفوق ولإشباع منفعة شخصية، وفي حالات نادرة يستخدم النفاق الاجتماعي كنتيجة للحاجة النابعة من حالة الفقر أو قلة الحيلة في ظل غياب العدالة الاجتماعية والقانونية. ويؤدي تفشّي تلك الآفة إلى العيش في (ماسوشية) فردية كنتيجة حتمية (لسادية) مجتمعية، الأمر الذي يجعل مسلسل التخلف هو الأبرز في فضاء المجتمع العربي. فيزلزل الاستقرار المجتمعي ويمزق النسيج الاجتماعي ويفكّك الترابط العائلي، ويقود إلى سيادة العنف بجميع أشكاله، وإلى انتشار آفات مرضية معدية جدًا كالبغض، والكراهية، والنميمة، والحقد، والحسد، والشعوذة والسحر، واغتيال الشخصية، وتمسيح الجوخ، وتغيير المبادىء، وشراء الذمم للحصول على مآرب، وشراء الودّ عند الحاجة لتحقيق مصلحة او الاستحواذ على منصب أو مال،، وغيرها من الآفات النفسية الاجتماعية التي تنخر الكيان العائلي والمجتمعي حدّ التسوس.
ومن أهم تجليات النفاق الاجتماعي الأشدّ خطورة وآثارها وخيمة جدًا هو السكوت عن الخطأ، والتملّق لنيل الرضى خوفًا من الفقدان والخسارة لمن هم في مواقع السلطة وصنع القرار: سواءً في العائلة، أو في العمل، أو في الدولة.
فيطغى المديح بصفات مغايرة للحقيقة على الرغم من تعدد الأخطاء والسلبيات وهزالة التفكير والدليل، مما يغذّي (النرجسية) لديه أو لديها لتصل إلى حدّ الإيذاء للآخرين وظلمهم دون توقف أو وعي ويحتضر هنا الضمير. حيث يُحيط بالمسؤول أو المشهور أو كبير العائلة شرذمة من المنافقين يوافقونه على جميع تصرفاته دون فلترة سلوكية للخاطئة منها، ويمطرونه بوابل من المديح الممجوج يوصله لدرجة من النشوة والتجلّي فيتوهّم بأنه (سيد البلاد والعباد)، ومعبود الجماهير، وبأنه معصوم من الخطأ. الأمر الذي يورطه في سرداب التعالي والتكبّر على مرؤوسيه ويسرف في سياساته الفاشلة، ويزيده ذلك تجبّرًا وطمأنينة في الوقت نفسه؛ بأن معارضيه هم (الأقلية) من المنافسين والحسّاد له على ما وهبه الله من تلك النعمة، وهو الدافع الرئيس لتقريب الأذناب من المناصب العالية لضمان صونها من شوائب الأقلية، على اعتبارٍ هلاميّ أن (الأكثرية) هم الأحباب والمصفقين والمطأطئين رؤوسهم لأصحاب السلطة والقوة والنفوذ والشهرة والجاه والمال، فيودي هؤلاء بالأسر والعوائل والمجتمع إلى الهاوية…
وهذه القاعدة الشاذة للارتقاء عبر “النفاق الاجتماعي” تنطبق على كل المجاميع صغيرها وكبيرها ابتداءً من مؤسسة العائلة، مرورًا بمؤسسات المجتمع المختلفة، وصعودًا إلى مؤسسة الدولة مع العلم أن قاعدة الهرم تدبّ فيها هذه الآفة ربما أكثر من قمته…
الحذر الحذر من الخيط الرفيع ما بين النفاق والذكاء، فلا خير في ودّ امرئ متقلبٍ إذا الريح مالت مال حيث تميلُ، هذا هو الودّ الذي لا يجلب الفائدة وليس منه فضيلة زائدة…
احسنت دكتوره