كثرة انتشار الألعاب الإلكترونية بين الأطفال والمُراهقين وحتى الكِبار، يقودنا لقرع ناقوس الخطر بصوتٍ عالٍ جدًا وجدًا.
من المفروض أن تقوم الألعاب الإلكترونية ببعض وأؤكد هنا على (بعض) الأدوار الإيجابية، مِثل تنميّة القُدرات العقليّة، وتحفيز الخيال الإبداعي التصويري، من خلال تكثيف معاني الصوت والصورة والحركة في العقل البشري.
ولكن ما يحدث حاليًا من تداول تلك الألعاب الكثيرة مُتعدّدة الأسماء وأحدثها (لعبة ببجي) غير ذلك، حيث ذهبت تلك الألعاب بعيدًا عن هذا الاتجاه، وسمّمت عقول مَن يستخدمها بمعانٍ سلبية بسبب المُحتوى واللغة وطريقة اللعب؛ فهي تتضمّن العُنف والعدوان، وربما الحِيَل غير الأخلاقية على مضمون تلك الألعاب، الأمر الذي قاد إلى العديد من التغيّرات على قيّم المُراهقين وعاداتهم وسلوكاتهم التي تتنافى مع ثقافة المُجتمع العربي، فخلق لديهم شعور بالاغتراب داخليًا يُقابله الرفض من قِبل المُحيط خارجيًا، وهذا أحد الأسباب العامّة في تفشّي الأمراض السلوكية حاليًا بين تلك الفئات العُمرية، وزيادة مشاكلهم النفسية، بشكلٍ موازٍ لمشاكلهم مع الأهل والرفقاء.
تلك الألعاب الإلكترونية المُسمّمة للعقول أدّت إلى انخفاض مدى المهارات الاجتماعية اللازمة لتشكيل العلاقات الصحّية والمُتوازنة؛ فهُم يُفضّلون التسمّر أمام الشاشات لساعات على رؤية أصدقائهم أو أقاربهم أو حتى التحدّث مع ذويهم، وذلك أفقدهم ناحية تطوّرية مُهمّة للغاية ألا وهي (التطوّر العاطفي)؛ فالأخير بحاجة إلى استفزاز وتغذية تمامًا كما يحتاج التطوّر في الفيزياء أو الرياضيات وأبواب المعرفة المُختلفة كافة.
للأسف الأطفال والمُراهقين اليوم غير مُضطرّين لاستخدام اللغة ومُفرداتها الثريّة، ببساطة لأن اللغة العربية اليوم بعيدة عنهم سواء في الأُسرة أو في المدرسة، واللغة المُكسّرة التي يستخدمونها اليوم هي (هجينة) وغريبة عن جميع اللغات، لأنها لغة إلكترونية مليئة “بالكبسات”، لذلك أصبح من المُمكن أن نُسمّي هذا الجيل (جيل الأزرار أو الكبسات الإلكترونية)، فلا غرابة إذًا من ضُعف المهارات الاجتماعية لهذا الجيل سواء مهارة التفاعل الاجتماعي أو حتى مهارة الحِوار.
طبعًا ميل هذه الفئة العُمرية نحو العُنف الخطر جدًا حدّث بلا حرج، كيف لا والألعاب الإلكترونية التي يلعبونها تزخّر بآليات وصور العُنف!! فالكثير من الإحصاءات أثبتت أن عُنف الأطفال والمُراهقين يفوق مَن هُم في أعمارهم ولا يُمارسوا ولا يُشاهدوا تلك الألعاب بالدرجة ذاتها.
نضيف إلى ما سبق، أن الكثير من تلك الألعاب وحتى الأفلام إن لم يكن جميعها تحمِل في طيّاتها المعاني التي لا تتناسب مع فِئتهم العُمرية، لذلك تشوّهت لديهم الكثير من المفاهيم وتضاءلت لديهم القيّم الجميلة، فما يجول في أدمغتهم يتمحور حول؛ الجِنس، وخِطاب الكراهية للآخر المُختلف، والغنى السريع حتى لو كان من خلال النصب والاحتيال، لا عجب من تراجع المعايير الأخلاقية والدينية لديهم، لأنّها من المفترض أن تُزرع وتتوثّق ضِمن هذه المرحلة العُمرية الحرجة، لا تسميمها بمُحتوى تلك الألعاب الإلكترونية.
لم يقف الأمر على ضُعف المهارات الاجتماعية واللغوية، بل تعدّاه إلى ضُعف المهارات الحركية كذلك، حيث تم اختزال جميع عضلات الجسم بعضلات اليد الصغيرة التي تستخدم الكبسات، في حين لا يتحرك مُعظم الجسم، وهذا خطير جدًا، لأنه أبعدهم عن مُمارسة النشاطات الرياضية المُفعّلة للجسم السليم، وهذا يُفسّر زيادة السمنة في الجيل الحالي بداعي الجلوس فترات طويلة جدًا أمام الشاشة، والهوس بالأكلات السريعة أثناء اللعب والمُشاهدة، تلك الأكلات التي لا تحتوي العناصر الغذائية الصحّية التي يحتاجونها في مرحلة البناء، كما تحجب شهيتهم لتناول الوجبات السليمة الهامّة لمرحلتهم العُمرية.
لست اعتقد بل أكاد أجزم هنا أن مُمارسيّ تلك الألعاب السامّة قد وصلوا مرحلة (الإدمان الإلكتروني)؛ فهُم يقضون ساعات طويلة جدًا أمامها، ويبرعون في إخفاء المُدّة الحقيقية لفترة اللعب عن الأهل خوفًا من منعهم وتجنبًّا لانتقادهم، وإن حصل ذلك – أي المنع – تتطوّر لديهم أعراض تشبه أعراض الإدمان تمامًا، مثل الاشتياق والرغبة الحادّة التي يطلبها الجسد، ممّا يتسبّب لهم ذلك في حالة من الإرهاق الجسدي والنفسي الذي يقودهم نحو العُنف إن لم يعودوا لمُمارستها.
وقد لوحظ لدى تلك الفِئة العُمرية انخفاض حادّ بتطوّر جميع الهويّات، لا سيّما العقلية مِنها والمعرفية كذلك، كالمُطالعة والنشاطات غير المنهجية، وإنّ تراجع القراءة والمطالعة لدى هذه الفِئة هو كارثة حقيقية نحو نمائِهم المعرفي المُتناسب مع التطوّر في العالم، بالإضافة إلى تغييبهم عمّا يحدث في أوطانهم، فتراجع مفهوم الانتماء والولاء لديهم للأسف الشديد بسبب تشتّتهم بسموم تلك الألعاب الإلكترونية وما شابهها.
أمّا ما يحدث في الفترة الأخيرة من الإقدام على أفعال خطرة، أدت إلى موت العديد من لاعبيّ تلك الألعاب في شتّى مناطق العالم، وقيام الكثير منهم بالانتحار أو إيذاء أنفسهم وغيرهم، يشي لنا بأن تلك الظاهرة قد غدت (مُتلازمة مَرضيّة) خطيرة؛ لأن تلك الألعاب الإلكترونية تؤدي إلى حالة من الفصل والانشطار عن الواقع، الأمر الذي أثار ردّة فِعل عنيفة من الرأي العام الغربي والعربي على حدّ سواء.
إخفاق الأُسرة والمدرسة في تحفيز الخيال وتنميته بشكل سليم، وتأطير الطاقات الإبداعية لدى الأطفال والمُراهقين، هو السبب الرئيس وراء انجرارهم نحو تلك الألعاب وشعورهم بالإغراء الشديد نحوها؛ ففي تلك المرحلة يكون النهم للخيال والتميّز والتجريب في أوجّه لديهم، لذلك فإن ملء ذلك الفراغ لديهم بالنشاطات والواجبات والمسؤوليات وتعزيزهم، من شأنه أن يوقف نزيف هذا الإدمان الإلكتروني، ومن المفترض أن تضع الأُسرة بالاتفاق مع جميع أفرادها قواعد وقوانين راسخة على توزيع الوقت بِدقّة وثبات، ولا يتم كسرها من أي طرف، فيتم تقسيم الوقت على النشاطات المُختلفة، الأكاديمية والاجتماعية والرياضية والمواهب، والأهم تخصيص جزء كافٍ من الوقت للعلاقات الأُسرية الحميمية داخل البيت الواحد ومع أفراد العائلة، بعدئذٍ لا ضير من وضع هامش لا يزيد عن (ساعتين) يومًا بعد الآخر، أو في نهاية الأُسبوع الدراسي، لمُمارسة تلك الألعاب الإلكترونية، ولكن بحذر شديد مع بعض الألعاب. فمِن المُهم جدًا أن يشاهد الأهل مُحتواها قبل السماح لهم باستخدامها، واعتبار ذلك شرطًا أساسيًا مُسبقًا للّعب فيها.
لا يسعنا هنا ذِكر جميع المخاطر لتلك السموم الإلكترونية، ومخاطر تأثيرها على الأطفال والمُراهقين ومَن يُمارسونها، ومحاذير استخدامها، ولكن خُلاصة الأمر نؤكد هنا على أن تلك الألعاب تُساهم بشكل كبير جدًا في وضع الرموز، “والشيفرات الأخلاقية”، والمعرفية لدى تلك الفِئة العُمرية، وستترك أثرها عليهم على المدى القصير والبعيد جدًا كذلك..
وفي الخِتام، لا بدّ من التنويه هنا بأنه ليس بمقدورنا حِرمانهم مِنها أو حذفها من حياتهم، فهُم سيُمارسونها بِكُلّ الأحوال، شِئنا أم أبينا بعِلمنا أو بدونه، ولكنّنا بقليلٍ من الوعي والحنكة، ومزيدٍ من الجهد والوقت، ربما نتمكّن من تقليل آثارها السلبية عليهم وعلينا وعلى المُجتمع، والأهم على بِنائهم الشخصي وتطوّرهم البنائي والمعرفي والأخلاقي بِكُلّ صوّره.
بعد انتشار لعبة “ببجي” المُرعب، حتمًا سيكون لنا من هذا الحديث بقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found