عندما أسّس مارك زوكربيرج (الفيسبوك)، كان يهدف إلى أهداف سامية – اعتقد ولست أجزم – لا كما حدث ويحدث في الوقت الحاضر. قد يكون هدفه نشر منهج (البوح) بصراحة وشفافية لكلّ شخص في المعمورة، والتعبير عن الرأي في القضايا العامة وحتى الخاصة دون إيذاء الآخرين، وربما أيضًا اعتبره مساحة افتراضية لاختصار الزمان وتقريب المكان للقاء الأصدقاء والمعارف ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم عندما يتعذّر مشاركتها في الواقع الفعلي.
لم يكن يعلم مارك آنذاك أن اختراعه الأكثر شهرة قد كشف لنا مرض جديد في العالم الافتراضي يعكس واقع الأمراض النفسية والاجتماعية في مجتمعنا، ودون أن يعلم أضاف إضافة جديدة تستلزم الانتباه في حقل التشخيص الطبي وتستلزم العلاج السريع قبل تفاقمها.
كشف لنا الفيسبوك عن مرض خطير ومؤذي جدًا وهو؛ اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع (الافتراضي)، وقد عنونتها هنا بِ (السيكو بوك)، على غرار اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع الواقعي؛ (السيكوباث) في التشخيص النفسي، و(السوسيوباث) في التشخيص الاجتماعي…
الشخص السيكوبوكي؛؛ هو شخصية مضادة للمجتمع الافتراضي، وهو ناشط على جميع وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية وبالذات على الفيسبوك، قد يكون رجل وقد تكون امرأة. هو أكثر الشخصيات صعوبة في التعرّف عليه، لأنه يُجيد لبس الأقنعة بجدارة وراء الشاشة، كما يُجيد أيضًا التمثيل بشكل عام، ويُتقن بشكل خاص تمثيل دور الإنسان العاقل المُحبّ والوطني كذلك. تكمن خطورته في قدرته على التأثير على الآخرين واستقطابهم والتلاعب بأفكارهم وتوجيههم حيث يريد، كما يتلذّذ بإلحاق الأذى بمن حوله وخاصة من هم أفضل منه ومن يشعر بعقدة الدونية اتجاههم. يعشق الاستعراضية ولو كانت على فاشوش، ولا يتوانَ عن المشاركة الفيسبوكية بأي قضية بمنشور أو تعليق أو نقل خبر أو إشاعة وإن لم تكن في مجال اختصاصه ولا يعلم عنها شيء، فهو أبو العُرّيف يعتقد أنه يعلم بكل شيء، على الرغم أنه يعلم جيدًا بأنه لا يعلم. مشاركته الدائمة مرتبطة بتحقيق شهرة ما بجمهور كبير من المتابعين والمعجبين يصفّق له كثيرًا على الغثّ قبل السمين إن وُجِد الأخير، وربما يكون مدسوسًا من جهة ما !!!
السيكوبوكي عذب الكلام الافتراضي، يعطي وعودًا كثيرة على الشاشة ولا يفي بأي شيء منها، كثيرًا ما يتعهّد ويَعِدْ ثم يَخْلِف، لأنه ببساطة شخصية لا يُهمّها إلاّ نفسها وملذّاتها فقط. عند محادثته على الخاص ربما تنبهر بلطفه وقدرته على استيعاب من على شاشته، وبمرونته في التعامل والردّ السريع، وشهامته الظاهرية المؤقتة، ووعوده البرّاقة والزائفة في ذات الوقت. ولكن عندما تراقبه لفترة كافية وتتابع منشوراته ومشاركاته وتعليقاته ستكتشف بسهولة أن تاريخه حديث جدًا ومُزيّف، وتجد أفكاره شديدة الاضطراب، وأحاديثه مليئة بالنفاق والتسحيج حسب مصالحه، فتكتشف عندئذ أن حياته مُضطربة مليئة بتجارب الفشل والتخبّط والأفعال اللاأخلاقية. فهو غالبًا ينتمي لجماعة الفزعة جماعة (حافظ مش فاهم)..
بعضهم من قليلي الحظّ أو غير المدعومين ينتهي به الأمر إلى السجن أو حرق كرته إعلاميًا، أما البعض الآخر المحظوظين جدًا والمدعومين كذلك يصل أحيانًا إلى أدوار قيادية في المجتمع كنتيجة حتمية للشهرة الافتراضية وإن كانت تلك الشخصية ومنشوراتها سطحية، ونظرًا لنفاقهم ولأنانيتهم المُفرطة وطموحهم المحطّم لكل القيّم والعادات والتقاليد والصداقات وحتى العقبات لا يتورعون أبدًا عن الترويج الاستعراضي المليء بالنفاق في سبيل الوصول إلى ما يريدون.
هذا الشخص السيكوبوكي هو الإنسان الذي تضعف لديه وظيفة (الضمير)، وهذا يعني أنه لا يحمل في داخل مكنونات نفسه من الأخلاق أو العُرف الشيء الكثير، وبالتالي فإننا نتوقع أنّ المُحصّلة سوف تكون دائمًا حالة من الميل المستمر نحو الغرائز، ونحو تحقيق ما تصبو إليه النفس، دون الشعور بالذنب أو التأنيب الذي يشعر به أي إنسان عادي صحيح نفسيًا واجتماعيًا إذا وقع في دائرة الخطأ.
إن السيكوبوكي نظرًا لافتعاله الكثير من المشاكل وامتلاكه جمهور عريض من المؤيدين يُمسي مُهابًا من الجميع لا لشيء باستثناء قدرته الخارقة على تجييش الإعلام وناسه وأدواته والرأي العام كذلك نحو ما يريد، وربما يكون محطّ إعجاب في ذات الوقت، الأمر الذي يقوده إلى الاستمراء والتمادي في مشاكله وسلوكاته العدوانية والتعدّي على الآخرين بكلامه الجارح وبوستاته التشريحية ومنشوراته (المُشخصنة). ليس مؤكدًا ولكن من الممكن أن ينفع معه العقاب والعلاج لحين تغيّره للأفضل، على أن لا يكون هناك (كبش فداء) بدلًا منه؛ بمعنى أن ما يقوم به السيكوبوكي على الفيسبوك لا يُعاقب عليه مهما تمادى في كثير من الحالات، وإنما يتم افتدائه بكبش فداء مهما كان سلوكه المؤذي صغيرًا أمام سلوك السيكوبوكي للأسف الشديد، أو قد تحميه عائلته وعشيرته الفيسبوكية والواقعية على حدّ سواء في ظل هذا المجتمع (المدني) المحترم جدًا ودولة المؤسسات الموقّرة..
أهم صفات السيكوبوكي هو الفشل في حسن التصرف والإخفاق في ردّة الفعل المناسبة للحدث، ويقوم بأفعال تستوجب العقوبة القانونية دون أدنى شكّ، بسبب الخداع والكذب المتكرر واستخدام المنشورات الفيسبوكية المفبركة والبوستات المنسوخة على مبدأ (أُسْرق والصُقْ)، ونقل المعلومات دون التأكد من صحتها، لتحقيق مكاسب ذاتية أدناها اغتيال الشخصية وشيطنتها، وربما للاستعراض وتحقيق الشهرة تحت مظلة “خالف تُعرف”.
الاندفاعية والتوتر والعدوانية والهمجية أهم ما يُميّز أولئك السيكوبوكيين، أضف إلى ذلك الفشل المتكرر في العمل الشريف أو التعامل المالي النزيه، ويتجلّى ذلك باعتداءاتهم الفيسبوكية المتكررة على الآخرين والتبلّي عليهم دون مبرّر. أما السِمة الأهم لديهم والأسوأ على الإطلاق هي (عدم الندم) على الإساءة للآخرين وإيذائهم نفسيًا ومجتمعيًا، ويظهر ذلك جليًّا في عدم الاهتمام أو حتى الاكتراث بمشاعر من جرحوهم أو من اعتدوا عليهم وأساءوا لهم على الملأ.
تلك السِمات والصفات والمعايير تُصنّف بالتشخيص الطبي النفسي بِ “الشخصية السيكوباثية”، أو الشخصية المضادة للمجتمع، وتُسمى كذلك في التشخيص الاجتماعي بِ “الشخصية السوسيوباثية”، وهي لا تبتعد كثيرًا عن سمات الشخصية السيكوباثية إلاّ بوجود قليلًا من (الضمير) لديها، في حين انعدامه كليًا عند السيكوباث، وإن كان قليلٌ من الضمير موجودًا لدى السوسيوباث ولكن لا يمنعه إطلاقًا من تكرار السلوك نفسه بذات الطريقة مرات ومرات. فهو أيضًا ممثل بارع، ومن المعتاد أن يبكي من شدة تأثره في موقف حزين ما، لكنه في الحقيقة يفكر بذات الوقت ماذا سيأكل أو أين سيقضي السهرة !! فهو أو هي يُبدّل مشاعره كتبديل الأقنعة، بينما الوجه الحقيقي مختبىء تحت كل قناع منها، فهو ذي وجه خالٍ من العواطف والمشاعر.
إن كُلًا من السيكوباث والسوسيوباث والسيكوبوك جميعًا يفتقرون إلى (التعاطف) وعدم الاهتمام بمشاعر الآخرين، ويفتقرون أيضًا إلى القدرة على وضع أنفسهما مكان الشخص الآخر وفهم مشاعره، فإذا كان السيكوباث يُوصف بأنه ذو (قلب مُتحجّر)، ويُوصف السوسيوباث بأنه ذو (عقل مُفكّر)، فإن السيكوبوك يجمع بين القلب المتحجّر والعقل المفكّر ويوصف أيضًا بأنه ذو (سلوك متكبرّ)، وهو أخطر منهما على الإطلاق، ويعود السبب في ذلك أنه أكثر تأثيرًا وانتشارًا في العالم الافتراضي ويتبعه العالم الحقيقي، بحكم حداثة أدواته وكثرة تطبيقاته وانتشاره على مدى واسع جدًا تعدّى حدود الزمان والمكان والأعمار خصوصًا على الفيسبوك..
يشترك الأشخاص الذين لديهم اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع في العالم الواقعي (السيكوباث، السوسيوباث)، وفي العالم الافتراضي (السيكوبوك) بسِمات مشتركة، أشهرها تضخّم الذات، فهم يرون أنفسهم أعلى من العمل في الوظائف الوضيعة برغم عدم تعلّم أغلبهم أو حصولهم على أي شهادات، ويفضّلون اللاعمل والبقاء عالة على الآخرين، والاكتفاء بالشكوى (الولولة والندب) وانتقاد الآخرين وشتمهم وإلقاء اللوم عليهم، وهم كثيري التنظير دون فعل. ليس لديهم واقعية في سلوكياتهم في الحياة، ويستخدمون العنف لحلّ ما يعترضهم من مشاكل، وليس لديهم تخطيط للمستقبل، وحتى لو وضعوا خططًا للمستقبل فإنهم لا ينجحون في اتباع تلك الخطط، يتعاملون مع الآخرين بتعالٍ، و يستخدمون العنف المُبالغ به لتحقيق أغراضهم من الآخرين. هذا لا ينفِ بالطبع انتشار تلك الأمراض وبالذات (السيكوبوك) بين أصحاب وصاحبات الشهادات العليا والدنيا على حدّ سواء، وقد ينتشر أيضًا بين الفئة المُثقفة والمرموقة في المجتمع، وقد يُصيب كذلك ذوي المناصب وصنّاع القرار، فلا أحد معصوم الآن، وهنا تكون المأساة الحقيقية والمرعبة…
بعض هؤلاء الأشخاص الذين يُعانون من اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع – واقعيًا وافتراضيًا – ، يحاولون خداع الآخرين بلطفهم الذي يصطنعونه اصطناعًا، و يتحدثون بلغةٍ راقية تارة وبلغة واطية تارة أخرى حسب المصالح، وبالفعل، يستطيعون الكذب والخداع على من لا يعرف هذا الاضطراب. وقد يتطور الأمر بشكل خطير يصل حدّ الخداع في عمليات نصب وابتزاز واحتيال مالية في مبالغ كبيرة، وليس بعيدًا على مثل هؤلاء الأشخاص الذين يصطنعون اللطف والكيّاسة في بداية الأمر استخدام العنف أو الابتزاز لإكمال عمليات النصب والخداع، فطبيعتهم العنيفة لا يتخلون عنها أبدًا. ونظرًا لأنهم لا يحسّون (بالندم) على أي أذى يُلحقونه بالآخرين فإنهم يستغلّون طبيعتهم وما تطبّعوا عليه في تعاملهم مع الآخرين.
الإدمان على (الميديا) الحديثة، والعالم الافتراضي، وشبكات التواصل الاجتماعي، ولا سيّما الفيس بوك، أهم ما يُميّز الشخصية السيكوبوكية، ويكون ذلك المدمن السيكوبوكي عاجزًا عن الاستفادة من خِبراته السابقة، أو حتى من التوافق مع المجتمع، نظرًا لرعونته، وسلوكه الفجّ، ورغبته المتواصلة في الغشّ والكذب وإيذاء الآخرين، دون أدنى شعور بالخجل أو حتى الندم. لا يستطيع الإخلاص لا للحُبّ ولا للوطن ولا لأي شيء أو أي شخص كائنٍ من كان غير نفسه وملذّاته. ويحرص على الظهور بعكس حقيقته دومًا؛ بمظهر الإنسان الوديع، بالإضافة إلى حرصه الشديد على التفنّن بالكذب والغشّ والتحايل والتطاول على الآخرين، وإن حدث وتعارضت مصالحه ولم تتحقّق فهو يتّسم بالقسوة في التعامل، والغلظة في الأسلوب، وتبرير أخطائه لصالحه دومًا. يكون قادرًا على التكيّف مع المواقف المُختلفة والشخوص المُختلفين، فتجده ذكي جدًا حدّ الإبداع في تحقيق مصلحته ومنفعته دون مسؤولية اتجاه الغير..
اعتقد بعد كل ما سبق وجب علينا أن نضيف حاليًا إلى قائمة الأمراض بالإضافة إلى المرض النفسي والمرض الاجتماعي، مرض العصر الحديث “المرض الفيسبوكي: (السيكوبوك)”، أو من الممكن أن نسميه مثلًا (سيكوميديا) لأنه تشخيص عام للمرض يشمل جميع المواقع والشبكات ووسائل التواصل، ثم نقوم بعد ذلك بالتشخيص الدقيق الخاص للمرض؛ فعلى سبيل المثال: (سيكوتويتر، سيكوسناب، سيكوانستجرام…الخ) والحبل على الجرّار..
الفيسبوك عرّى لنا تلك الأمراض النفسية والاجتماعية جميعها وكشف حجمها، لا بل أنه قد أضاف لنا أيضًا المرض الأخطر على الإطلاق والأحدث كذلك؛ مرض (السيكوبوك) الحديث. وتكمُن خطورته في اتساع دائرة الأذى والتأثير وسرعة عدواها وانتشارها، في حين أن الأمراض المُضادة للمجتمع الأُخرى المذكورة هنا سابقًا ضررها محصورًا في الدوائر الضيقة للمريض/ة..
أما الآن، كم من سيكوبوك نراه يوميًا على الفيسبوك؟؟ اسألوا أنفسكم جميعًا وراقبوا، ثم طبّقوا معايير وسِمات اضطراب الشخصية السيكوبوكية المعروضة هنا، حتمًا ستُذهلون من النتائج. شكرًا (مارك زوكربيرج) الذي عرّى لنا وجوه الناس على الفيسبوك، وعرّفنا على فئة (السيكوبوك) التي كنا نستشعرها ولكن نجهل تشخيصها بمُسمّى يليق بها، فهي مُعدية جدًا جدًا جدًا….
هذا الموضوع تحديدًا حتمًا له بقية، وربما بقايا… دمتم…
بغض النظر عن الجانب النفسي هل يؤثر الجندر عن الهوية الرقمية للبعض منا وكيف ذلك؟
الجندر يؤثر على تطور كافة الهويات الإنسانية.