من الظلم أن نحكم على هذا الجيل بالإخفاق مُقدّمًا بناءً على مظهره واهتماماته فقط؛ لأنه ببساطة شديدة كل مرحلة من الزمن تحمل “موضة” مظهريّة لا يُشترط أن نحبها، وإنما مطلوب منّا في أقلّ تقدير أن نحترم خيارات أصحابها، فهناك الكثير من الموضات استخدمها كثير من شخوص الأجيال السابقة التي تدّعي التفوّق الأخلاقي، ونراهم هم أنفسهم لا يستذكرون اليوم عدم رضا آبائهم عن هذا (الشذوذ المظهري) عمّا كان معتادًا آنذاك، ومع تقدّم عمرهم وتطوّرهم المعرفي كانوا قد تجاوزوا “الحياد المظهري”، وعادوا بعد برهة من الزمن إلى سياق الشكل السائد والمقبول، كيف لا وهذه هي سيرورة الأجيال وصيرورتها..
الأجيال السالفة ليست بأحسن حالًا من اللاّحقة؛ لأنّ تلك الأجيال كانت شاهدة على كلّ الهزائم العربية إن لم تكن مُنتجة لها أيضًا، وهي أجيال لم تحقّق شيئًا “مُبهر” تاريخيًا على المستوى العلمي والثقافي والمعرفي، كما أنها بعيدة كلّ البعد عن الإحصاء والبحوث والدراسات، أمّا الأكثر إحراجًا لتلك الأجيال التي تدّعي (بطولات كرتونية) أنها ادّعت استقلالها وفكّ عبوديتها عن الآخر، ولكنها دخلت في عبوديات داخلية أكثر قماءة من المحتلّ نفسه التي توهّمت أنها استقلّت عنه..
كما أنّ الأجيال السابقة لم تؤسّس حتى اللّحظة الراهنة معاني الحرية والديمقراطية الدافعة نحو الحياة المدنية والإبداع، ونضيف هنا أيضًا أنها أجيال لم تبذل عُشر طاقتها على تنمية الأوطان والنهوض بها للأسف الشديد، إلاّ من رحم ربّي.
وما زالت الشعوب تعيش “نستالجيا” ذلك العدد القليل من الأبطال، وما زالت تتغنّى به القلّة كذلك؛ لأنّ تلك الأجيال ذاتها وقعت في شرك مراقبة تفوّق الآخرين والتحسّر على عدم اللّحاق بهم لما أصابهم من “وهم المؤامرة”..
أيّ إنجاز هذا الذي يمكن أن ندّعيه لأنفسنا وللأجيال البائدة رحمها الله ؟؟!!
وعليه، فإنّ التساؤلات التي تطرح نفسها بشدّة في الوقت الحالي سواء من قبل المُربّين والعوائل أو حتى من الأجيال السالفة هو: هل هذا العصر “الرقمي” بتكنولوجياته كافّة، وتطبيقاته التي غدت لا تُعدّ ولا تُحصى، ومدخلاته الحديثة والمتشابكة، ومنتجات الترفيه والتسلية المرئيّة والمسموعة والملموسة وحتى غير الملموسة التي تجذب الكبار قبل الصغار، نقول هل تعوّض كلّ هذه المخرجات الحضارية عن مخرجات النفوس والعواطف البشريّة والانتصارات؟!
وهل توفير كل تلك الأدوات لأطفالنا تُخلّصنا من عقدة (ذنب الإهمال) لهم نتيجة الانشغال بمتطلبات الحياة وهمومها وكدرها وتراكمات العمل وكلّ ما يشبه ذلك من الحجج النمطية المُثقلة بهموم الحاضر وغموض المستقبل وتطلّعاته؟!
وهل نركن إلى التكنولوجيا المصنوعة كبدائل عن منح عواطفنا لهم، وهل ستعوضهم عن دفئ مشاعرنا والتعبير عنها لهم؟!
وهل من المنطقي استبدال النموذج اللّغوي الحواري والقيمي بلغة التقنيات المستوردة وقيمها بنسخ طبق الأصل؟!
وهل بعد كل هذه التساؤلات ما زال لنا الحقّ أن نتساءل عن غرابة مظهر الجيل الحالي وقيمه الغريبة عنّا؟!
كثيرة هي التساؤلات الملحّة التي تطفو على السطح الآن كنتيجة حتمية للتغيّرات المتسارعة بشدّة، والتي لا تسمح لنا لالتقاط الأنفاس أو حتى التوقّف للنقاش والتأمّل، ونحن نشهد طوفان الثقافات المنهالة علينا من كل الاتجاهات دون رقابة، ودون حاجة إلى جواز سفر للدخول أو حتى فيزا للمرور، مما جعلها مخترقة لكلّ الحدود، وهي مفتوحة على مصراعيها جالبة معها الغثّ والسمين والصالح والطالح دون غربلة.
واعتقد هنا ولستُ أجزم أنّ الإجابة على مثل تلك التساؤلات المشروعة جدًا ما هي إلاّ حجج نستثمرها كوسائل لتبرير ضياع الوقت واستنزافه على حساب سعة الوقت لأبنائنا وبناتنا، ثمّ نُسقط عليهم ببساطة خذلاننا وهزائمنا المتراكمة متذرّعين بانتقاد مظهرهم وسلوكاتهم واهتماماتهم التي عشناها قبلهم مع أهلينا بأدوات مختلفة..
ثقافة الجيل المظهري لا تشكّل مشكلًا عصيبًا أو آثمًا ومهدّدًا للمستقبل؛ إنما يتفاقم الأمر عندما يترافق مظهر الموضة غير الاعتيادي مع منظومة فكرية هجينة وبعيدة عن ثقافتنا وأخلاقنا ومعاييرنا الوطنية وأهدافنا بعيدة المدى..
وأخيرًا وليس آخرًا، يجب علينا جميعًا أفرادًا ومؤسسات ضرورة التركيز مع الجيل المعاصر على كيف ((يفكّرون)) أكثر بكثير من التركيز على كيف “يلبسون” فقط، ومن الواجب علينا كذلك التأكيد على الأهمية القصوى للعلائق الحميمة والدافئة مع الأهل في تأسيس طفل مستقبله إما (رجل كامل) أو (أنثى كاملة)، لما يحمله ذلك من صحّة نفسية وجسدية متينة، وهي دعوة لتأكيد جملة من الحقائق التي أوشكت أن تكون في طيّ النسيان، لعلّ أهمها “ربّوا أولادكم وبناتكم بالحبّ وعلى الحبّ حتى لا يقعوا ضحايا لعلاقات مهترئة، وربوهم لزمانٍ غير زمانكم، وغذّوهم بالحبّ والحنان”، حينها فقط سنشهد جيلاً مُتخمًا بالنشميّين والنشميات يبنون الوطن بشكل صحيح ومتين ..
وللحديث بقية… دمتم….
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found