يستفزّ الكثيرين مِنّا جدًا رؤية “بعض” الوجوه (المُستهلكة) على الشاشات وربما خلفها تتشدّق علينا في “الوطنية” تارة وفي الأخلاق تارة أُخرى، وبكلام معلوك جدًا حفظناه عن ظهر قلب، لأنه للتصدير الإعلامي فقط وللتشبيح كذلك، آملين بلعلّ وعسى أن ينالهم فُتات المناصب مرة أُخرى، أولئك المُصابين بداء (الكرسي) للأسف الشديد.
هؤلاء وأشباههم ممّن يتصدّرون المشهد، ويتنطّعون بالحوار الوطني “الافتراضي”، وينتقدون خلف الشاشات مَن يجلس على الكراسي التي يسيل لُعابهم من إغراء دفئها، لن يتوانَ أيّ مِنهم في اللهاث وراء المنصب ذاته الذي يُهاجمونه إن صحّ لهم، أو استغلال مَن يشغلونه حاليًا لتحقيق مآربهم الشخصية والعائلية في أقلّ تقدير، ثم يتحدّثون عن الفساد في ذات الوقت؛ فلا يغرّكم تسحيجهم “السوشيالجي”.
أضف إلى تلك القائمة التي تطول، أولئك المُعارضين الذين يُمطروننا بمواعظهم الرنّانة ويرشقونا بتلك القنابل الصوتية بعد مغادرتهم، وعندما كان (بعضهم) على ذلك الكرسي “ذاته” لم يُقدّموا للوطن ولمواطنيه ما يُطالبون به اليوم، ولم يفوّتوا فرصة للاستئثار بالمصالح الخاصّة وتأمين أنفسهم وعائلاتهم بتلك المغانم، وهُم أيضًا بعد خروجهم من السُلطة مَن يستغلّون نفوذهم ومعارِفهم (للواسطة والمحسوبية) في أي موضوع كان، حتى لو كان سلبًا للحقوق أو فيه ظُلمًا صارخًا؛ فهل هؤلاء أُمناء على الوطن إن لم يكونوا أُمناء على ذواتهم وسُمعتهم قبل مواطنيه؟؟!!!
اعتقد الجواب هنا يتمثّل بمقولة هامّة مفادها: ((المُجَرّب لا يُجَرّب))..
قبل تلويم الحكومات والنوّاب والأعيان وغيرهم راجعوا أنفسكم أولًا وحاسبوها؛ ف الفساد لا يقتصر على المسؤولين، وعندما يستشري الفساد بهذه الدرجة “اللامسبوقة” في تاريخ الوطن لهو دليل على “بُنية فساد” مُمنهجة، فسادٌ يبدأ من الذات ويظهر في التعامل في محيط الأُسرة والعائلة والأصدقاء والأقارب وفي المِهنة وفي الشارع وفي جميع الأماكن، وكُلٌ في موقعه يستطيع أن يكشف فساده من عدمه، لذلك حاسبوا ذواتكم قبل مُحاسبة الآخرين، وتأكدوا من نظافة سرائركم أولًا.
أليست النميمة فسادًا؟؟ أليس الظُلم والتبلّي والتجنّي وشهادة الزور فسادًا؟؟ أليست القطيعة الأُسرية وقطيعة الرّحم فسادًا؟؟ أليس شراء الذِمم فسادًا؟؟ أليس الطمع والتعدّي على حقوق الأرامل واليتامى فسادًا؟؟ أليس النفاق فسادًا؟؟ أليس عدم إتقان العمل فسادًا؟؟ أليس تخريب الوحدة الوطنية فسادًا؟؟
كثيرة هي التساؤلات المشروعة على وزن (أليس) هنا، وتستطيعون القياس على ذلك المنوال لكشف حجم الفساد في الطبيعة البشرية أيًّا كان موقعها؛ فقبل أن تنتقد غيرك، وتُلقي الاتهامات جُزافًا، حاسب نفسك أولًا، وتأكد أنك خالٍ من الفساد مع ذاتك ومع مُحيطك الضيّق ثم مع الوطن؛ كيف لا والمواقف الشخصية والوطنية صنوان لا يفترقان، وازدواجية المعايير لا تُليق بها.
ورغم كُلّ ذلك “الفساد البُنيوي”، ورغم كُلّ ما نُعانيه يوميًا من تبعاته على مستوى شخصي أم وطني، ما زال ((القانون)) فوق الجميع شاء من شاء وأبى من أبى، وما زال الأردن بلد قانون بغضّ النظر عن وجود بعض التجاوزات هنا وهناك، وما زال هناك ((شُرفاء)) في هذا الوطن لا يبيعون ضمائرهم، ولا يأكلون حقوق غيرهم، مهما كان الثمن ومهما كان ثِقل الواسطة والمحسوبية؛ فإن خِلْيَتْ بِليَتْ..
الانتماء للوطن ليس بالضرورة أن يعود إلى الأُصول؛ فمَن يخدم الوطن برمش العين، ولا يعيث فيه فسادًا، ولا يعبث بأمنه، ولا يُمارس الفساد بأي شكل وفي أي موقع يشغله، يُجسّد هنا الانتماء الحقيقي ومشاعر الوطنية الصادقة، فلا الاسم الأخير ولا حجم العشيرة ولا وزن المعارف الذي يُحدّد الانتماء لهذه البلد، بقدر ما يرتبط ذلك “بالمصداقية مع الذات” أولًا والعمل الدؤوب بإخلاص دون مطمع في كرسي حرير أو منصب مُثير أو حتى مالٍ وفير، هذه هي الوطنية وهذا هو الانتماء الحقيقي يا سادة..
وبعد “مُراجعة الذات” وعلاج فسادها، وحلّ قضايا الفساد الشخصية والعائلية، يستطيع الشخص هنا حلّ مشاكل الوطن، لذلك من المفروض قبل شغر المناصب مُراجعة الإرث التاريخي والعائلي للشخص، وشبكة علاقاته الأُسرية، ومن خلالها فقط نستطيع الحُكم عليه إن كان سيحلّ لنا مشاكل الوطن ويُنصف مواطنيه، أم سيسخطهم ويُقاطعهم ويتهرّب مِنهم كما يفعل مع رحمه ودائرته الأولى..
وبناءً على ما سبق أيها الشعب العظيم إن أردتَ اجتثات الفساد من جذوره وبالضربة القاضية، ابدأ “بنفسك أولًا” وراجعها بأمانة، وعدّل سلوكك في أُسرتك وعملك؛ فمُحاسبة الذات أجدى أن تسبق مُحاسبة الآخرين، وبعد تلك المُراجعة المُحترمة تمسّك (بحقّك) ولا تتنازل عنه أبدًا، وكما يقول المَثل العامّي “لا يضيع حقٌ وراءه مُطالب” ومن الجمل الجميلة أيضًا في هذا الإطار “ربنا ما بسمع من فم ساكت” ، ولن يسمعك أحد إن لم تكن صادقًا مع نفسك أولًا ومُتمسّك في حقّك ثانيًا ومُتوكّل على رب العباد، ستحظى عندئذٍ بعدالته..
تذكروا دومًا ورغم أنوف كُلّ الفاسدين الصغار أولئك الأخطر علينا من كبارهم، أنّنا ننعم في بلد (القانون) وسيمشي الحقّ والقانون على رؤوس الجميع مهما بلغ كبرها وتضخّم حجمها، تلك هي الإرادة الإلهية وهذا ما تُطالب به دومًا الإرادة الملكية السامية..
كثيرون هم/هن وأنا مِنهم لا نسكت عن الظُلم أو عن تجاوز حقوقنا والتعدّي عليها، بذات المقدار الذي لا نقبل فيه التعدّي على غيرنا، ذلك حقّ كفّله لنا الدستور والقانون، والساكت عن الحقّ شيطان أخرس، ونعوذ بالله من شياطين الإنس قبل شياطين الجنّ..
وأخيرًا وليس آخرًا، إصلاح الوطن لا يتأتّى إلاّ بعد إصلاح الذات؛ (فنبراس الذات أولًا)، وتذكّروا قانون الدوران البشري، وأن كلّ ساقٍ سيُسقى بما سقى، عندئذٍ، حتمًا سيسقط رأس الفساد بعد اقتلاع جذوره المُترسّخة في الطبيعة البشرية حدّ العفن…
حتمًا لنا لهذه القصة الموجعة بقايا لا بقية واحدة فقط…
Block "%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%821" not found